يُقال: “تجوع الحُرَّة، ولا تأكل بثديَيْها”؛ ويقال: “الموت، ولا المَذَلّة”، أقوال كهذه تنبع مِن رَفع الإنسان لمقام المناقبيات والقيميات على مقام المحسوسات؛ ولكن الحياة ومعاييرها تُقدّم لنا صيغاً مختلفةَ الأولويات. فعندما تبحث أمٌّ في حاوية نفايات عمّا تسدّ به رمق أطفالها، فإنها تقدِّم الحياة -ولو بمذلّة وانكسار- على الأنَفَة والكرامة؛ وعندما يصمت مُعتقَل على شتم عرضه، لتوقي لكمةٍ تفقده بصره، لا يكون جباناً، ولا مفرّطاً بكرامته. إن أصل الفعل النيّة؛ وتقييمه بنتائجه وتَبِعاته. ليس الهدف من هذه المقدمة مرافعة فلسفية في القيم، بل توطئة لإضاءة على حال سورية، ومآلاته، وما علينا فعله لننقذها وننقذ أنفسنا.
بعد أن وصل السوري إلى هذا الدَّرْك من الوجع في الداخل السوري، وبعد إطلالته على عالم متحضر إثر رحلة تشرده المريرة -وهو الذي يحمل جينات مَن ساهموا بالحضارة البشرية- تجده يغار من أناس يعيشون في ظل قانون يحترم آدميتهم ويقدّر إبداعاتهم، وينعمون بالأمان والصحة، ولا تُدَنَّس كرامتهم، ولا يجوعون، أو يُقتَلون من أجل شخص أو عصابة مريضة أخذتهم رهائن، وعاملتهم كعبيد. يفاقم حالةَ السوري معرفتُهُ بأن العبودية ومفهوم الرعيّة انتهيا من عالمنا؛ ولكنهما لا يزالان يحومان فوق رأسه.
لن ينقذ سوريةَ أو يعيد أهلها إليها -أكانوا في داخلها، أم خارجها، أو تحت ترابها- ولن يعيد كرامة أو روح أو جسد مَن قضوا تحت التعذيب، أو بفعل براميلَ أو صواريخَ؛ ولن يردّ عفة أو كرامة مَن اغتُصِبَت، أو يرفع الذل والهوان والوجع والعَوَز والاحتلال حتى حرقُ القطيع الإجرامي ومرياعه ألف مرة. إن بداية استرداد ذلك تكون عبر عدالة لا بد من فرضها، وعلى رأسها تجريم الفاعل بما فعل، وإزاحته من المشهد السوري.
إن سردية “المؤامرة الكونية” لا تخفف، ولا تبرر، ولا تلغي جريمة نظام الأسد بحق سورية وشعبها (مَن ضده، ومَن معه). لقد أخذت منظومة الأسد الاستبدادية سورية رهينة، واضعة السلاح برأسها وروحها؛ وزاد في ذلك المصاب جلبها لميليشيات إيران، وقوة الروس العسكرية، التي زادت وفاقمت حالةَ الرهينة. والمُفارَقة أن تلك الميليشيات وتلك القوة الروسية لم تنقذ العصابة، بل ساهمت بإنهائها بقدر ما ساهمت ثورة السوريين. تلك القوى التي حمتها استولت على قرارها ونزعت “سيادتها”. ما من قوة في العالم تستطيع أن تعيد تأهيل أو تكرير تلك المنظومة؛ والدلائل لا حصر لها، والتعبير عن استحالة ذلك واضحة، وآخرها التصريح السعودي.
لا يمكن أن تكون سورية وأهلها بالنسبة لسلطات الأمر الواقع الموجودة في سورية، والمتمثلة بروسيا وإيران كحُماة لمنظومة الاستبداد، وأميركا وتركيا في الشمال الشرقي والغربي السورييّن، أهم من مصالح بلادها. ولا ينفع السوريين الاستمرارُ برمي المسؤولية أحدهم على الآخر، أو على القوى المتدخلة، أو التلظي بحجة “المؤامرة الكونية” السخيفة والحقيرة من جانب منظومة الاستبداد، حتى ولو جعلتها مادة مدرسية لتزوير الحقيقة. وفي الوقت ذاته، لا يمكن أن يكون الشعب السوري مسؤولاً عمّا حدث، وهو بلا حول أو قوة.
قد تكون الدول تجاه مواطنيها شِبه جمعيات خيرية خادمةً للإنسان معززةً له، ولكن عندما يكون لها تمدُّدات ومصالح تقتضي تدخُّلها في دول أخرى؛ فهي لن ترى في تلك الأمكنة التي تتدخل فيها إلا مناطق نفوذ لخدمة مصالحها أولاً. من هنا، لا الروس سيرفعون الحَيْف عن سورية وشعبها، ولا هم سيترددون في بيع هذه المنظومة الاستبدادية، والمصافقة عليها من أجل مصالحهم، عند توفر السعر المناسب؛ ولا الأميركيون مغرمون بشعب سورية أو إنقاذها- لأنهم لو كانوا كذلك، لانتهت مأساة سورية منذ سنوات- ولا إيران أتت كرمى للشيعة، أو لحماية المراقد، بل لتوسيع إمبراطورية الملالي، وجعل حدود مواجهاتها الإقليمية والدولية خارج أراضيها؛ ولا تركيا حملت السوريين واستنفرت سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، إلا لتكون حالة فاعلة ولاعباً أساسياً في الصراع على الشرق الأوسط، وخاصة أنها تشترك مع سورية بحدود تقارب الألف كيلومتر.
السؤال الأساس بالنسبة للسوريين؛ وفي ضوء رخاوة القانون الدولي، ولكون القرارات الخاصة بسورية بلا أنياب؛ ومن خلال التفاعل مع قوى الأمر الواقع تحالفاً أو مواجهة، لا بد للسوريين أن يفكروا، وعلى مضض، بالأجر المطلوب لتلك القوى، طالما أن دحرها بالقوة غير ممكن الآن. فمن يأخذ رهينة، وهو مقتدر؛ ينتظر ثمناً أو دِيةً. فنحن نعيش في عالم يحكمه قانون القوة، لا قوة القانون. الخيار الآخر ثورة شعبية تحريرية جديدة، تستفيد من عثرات السنوات الماضية، أساسها الوعي، وأداتها خلايا بالآلاف، تجعل بقاء الاحتلال الداخلي المتمثل بمنظومة الاستبداد الأسدية، والخارجي المتمثل بالقوى أعلاه مستحيلة. والدفاع عن النفس حق شرعي. لقد بات أعداء السوريين، كل السوريين، واضحين تماماً. لا بد من كسر كل الحواجز بين السوريين؛ فالظالم والمستبد والمحتل واحد.
لن ينطلق السوريون من لا شيء في استعادة بلدهم؛ هناك دعائم واستنادات لما سيقررون فعله؛ وأهمها أن الداعم الأساس لمنظومة الأسد -روسيا- في حالة استعصاء وفي مستنقع في طريقه لخنق وجودها؛ هي تدركه، لكنها تكابر. وإيران، الداعم الآخر، فشلت في تحويل سورية إلى ما يشبه لبنان؛ وهناك شِبه إجماع على اقتلاعها من سورية. والمنظومة ذاتها في حالة شلل اقتصادي وعسكري وسياسي وأخلاقي؛ والثلاثة يرزحون تحت عقوبات هالكة. والوضع الداخلي، لمن تأخذهم منظومة الاستبداد رهائن، لم يَعُدْ يُطاق. ومن هنا، استحالة إعادة تكرير منظومة الاستبداد؛ فلن يكون هناك إعادة إعمار، أو عودة للاجئين، أو رفع عقوبة أو حتى عيش بوجودها؛ وها هي ملفاتها الإجرامية يتم فتحها بكثافة مؤخراً. تعودت منظومة الاستبداد على لعبة الزمن وبرعت باستنزاف ومصّ دم الآخر وصبره مواطناً كان أم دولةً؛ إلا أن ما فعلته -ولا تزال- خلال عَقْد من الزمن تجاوز حدود اللعبة بكثير؛ فهذا الانسداد القاتل لكل ما حولها لن يَدُوم، ومصيرها الاقتلاع. في صَبْر السوريين وعملهم وإرادتهم وتخطيطهم وتواصُلهم وتعاضُدهم يتحقق ما يبدو مستحيلاً.
“نداء بوست”