غادر أنسي الحاج باكراً وسريعاً قبل أن يرى كتابه الأخير “كان هذا سهواً”، الذي صدر بعد وفاته في 18 شباط 2014. وروت ابنته الشاعرة ندى الحاج، بأسطر قليلة، قصة الكتاب الذي “تهرّب من إنجازه” لتلملم ندى أوراقه التي كتبها على مدى سنوات ولم ينشر منها حرفاً، وحمّلها الأمانة “تركت لك مسودة كتاباتي هذه لتعملي عليها بعد رحيلي”. ورغم أنها طردت الفكرة من رأسها، فإن الحلم الذي رأته ذات ليلة أنه أهداها كتاباً حروفه من ذهب تحقق، وتجسد بين دفتي الكتاب الذي يتجلى فيه أنسي الحاج شاعراً وناثراً وحكيماً “أن تكون ملاكاً تبرئة لك. أن تكون شيطاناً هو أيضا تبرئة لك”.
ويبدأ الكتاب من باب “ميتافيزيك ودين”، لكن الشاعر ينقله من حقل إلى آخر، وهو يتأمل، فتتوالى الحالات، صوفية، حكمة، روحانية، في لغة الشاعر الصافية المشغولة ببراعة الصائغ، الذي ظل نصه حراً على الدوام لا يطلقه عن سهو، إنما عن وعي شديد، ومثل مرآة تعكس الوقفة المفتاحية التي يبدأ بها “ميتافيزيك ودين”. فقد يحدث أن ينتظر الكائن “مجيء الله”، وربما لن يأتي، أو أنه يحضر ولا يفارقه، وتصبح “الحياة هي هذا الاستعداد للذي قد ينقضي معظم العمر قبل أن يحدث لكنه سيحدث”، شريطة أن يحصل الاستسلام الذي هو “أعذب أشكال الأيمان”. وفي لحظة يندب الفرد حظه خشية الذهاب إلى العدم، فيتجلى السر فيه ويحضر مثل مفاجأة سارة.
بداية المنفى عبور آدم وحواء من “الباب الشرقي في الجنة إلى أسفل الصخرة”، قادهما الملاك إلى هناك واختفى. ذلك تأويل آخر لخروج أدم وحواء من الجنة، لا يضاهيه سوى دهاء باطنيي العصور الحديثة الذين لا تعوزهم الحيلة. وتتوارد الرؤى العدمية وتتأرجح ما بين الدين والميتافيزيك، لكنها تقف دائماً عند حافة الشك والطعن في اليقين، ليجاور الإيمان العبث والشعور بالذنب، حين يصل السؤال إلى نجاة نوح من الطوفان، ويلامس المسيح وبوذا وقرف الناصري من صورة الخيانة وهي “تماطل وتتردد، ويسيل لعاب جبنها”، ويتوقف مرة أخرى عند “الأناجيل الحافلة بغصات المسيح المجلوة بالمحبة” شمس الكلمة المحبة، “المحبة التي قال بها الناصري قدس أقداسه، ولولاها لما ظهر العهد الجديد”.
حديث المجهول لدى الحاج خطاب صوفي، يصبح كائناً يحس ويحدس بالأشياء حين يصل إلى المجرد، ويعرف بالغيب، لكنه ينهار أمام عامل الزمن، لأن قسماً منه غير محدود ومتناه، بل هو خارج الزمن. وينتقل بالقارئ من حقل إلى آخر بحرية يرى فيها نقيض الإيمان، ويذهب إلى دليل من المركيز دو ساد من خلال فكرة التهتك التي عرضها في كتابه “قصة جولييت”. ويجد أن راسبوتين يحل عقد التناقض على نحو بدائي، في كلامه، حيث بقي مراعياً “وربما واقعاً في سذاجة ذاته” من خلال الجمع بين “شبق الإيمان وشبق الغريزة”. لكننا نقع في المستحيلات التقليدية حيث يصعب الجمع بين الليل والنهار. ويعرج على أنبياء التوراة “تهديديون ورواد رعب، تسمعهم فتقول لِمَ الحياة”. أمر هؤلاء يدعو إلى الضحك في ما يخصنا “نحن سكان أرض فينيقيا وجوارها” الذين ضاق بهم ذرعاً “إله إسرائيل المتملك الغيور وكهنته المتعصبون الدمويون العنصريون”.
ويقودنا هنا إلى ما يميز اليهودي عن سائر الابراهيميين وغير الابراهيميين. هو القوة الـ”سينيكية” (الكلبية)، ومثال ذلك يعقوب الذي أحب زوجته راحيل “أكثر من الله”، وتتجلى هنا الصوفية اليهودية في المثالية والارتكابات حتى تبلغ المعيب والمنحط في بعض المواقف. ويمر الكاتب على تفوق اليهود قديماً وحديثاً، ويجد أن سره يكمن في الخوف منهم، وهذا هو سبب نزعة الهيمنة والانتقام من مضطهديهم، ويقود ذلك إلى إرهاب معاداة السامية، وهناك ما هو أسوأ من ذلك وهو أن يحصل الانفجار الدموي ضد الهيمنة اليهودية، وهذا يطرح سؤال كيف يمكن لليهود مقاومة نزعة الانتحار التي كانت تقودهم دائماً إلى تجاوز الحدود؟ لكن للفاجعة سحرها لدى هؤلاء المتيمين بـ”الذنب والحرية”. ويذهب بعيداً حين يعتبر أن علاقة اليهودي بالله مادية، نقيض للروحانية المسيحية والتجريد الإسلامي، وتنطوي على جدل وسادية تكره الضعف. ما من شفقة والانتقام سنة، وهذا ما استعارته هووليود وعممته كقيم يراد لها عبر السينما أن تسود فوق القيم الإسلامية والمسيحية، فضلاً عن الآسيوية. والضعف في اليهودية ليس غاية في حد ذاته، كما هو الحال في المسيحية التي مجدت الضعف، تخلصاً من القوة اليهودية والوثنية “الإله المسيحي والإسلامي الرحمن الرحيم ظهر بعد الإله اليهودي العديم الرحمة”، وبهذا اليهودية معاصرة للغرب “القوي” ولأميركا “الجبارة” كما كانت معاصرة للشيوعية البولشفية “المنتصرة بالدم على روسيا القيصرية ومسيحيتها المحتدمة”. وهو هنا لا يتعصب لأحد من الأديان الثلاثة، فالرافض لها مجتمعة هو الرابح لأنه يحرر ذاته من التعصب، ويمر على إسلام فارس الشدياق وميشيل عفلق، فالأول لـ”ظروف نقمته على الأكليروس”، والثاني لـ”إيمانه بالعروبة على الأرجح”، والذي حرك “مشكلة وجدانية في نفس المسيحي العربي”، بل هي قضية تستحق برمزيتها أن “تشغل كل مسيحي عربي بل كل عربي”، لأن ما فيها من معاناة يختصر عصوراً، لكن بالنسبة للحاج تبقى المسيحية مذهب “الندم والضعف والثورة عليهما”.
تفاؤل المفكر الذي جاء به نيتشه في أواخر القرن التاسع عشر، ليس هو ما يطمئن له الشاعر، والدليل على ذلك المجازر والحروب التي تشكل نقيضاً لما أفنى المفكر عمره من أجله. إنها النبوءة المبكرة التي لم تأخذ حساب السابق واللاحق، وسقط في الأماني والتفاؤل البريء. إلا أن تجاوز الحدود يعد رغم ذلك فضيلة لأن الفيلسوف استهان بالعواقب، لكنه عُيّر بأنه ملهم الدسكتاتوريات.. اخترع لنفسه صحة كما يوحي الخائف لنفسه بالشجاعة.
في فصل “ذات”، الباب موصد، والمفتاح في جيب الرجل التائه في الشارع، والمرأة تأتي من بعيد من بلد آخر تطرق الباب، ولا أحد يفتح، فتجرب مفاتيح دارها الأول فالثاني والثالث هو الذي يدور في القفل، كما الكلمات التي تشتاق إلى تخطي حدودها فتتخطاها. ويبقى الرجل مستغرقاً في الليل، غرام بالليل “حياة توترت واتضعت وتفلتت وضاعت وأكلت وفي لحظة ما لم يبق شيء، ولم يُطرق الباب”، بل انفتح من تلقائه، وانغلق من دون تدخل من أحد، ويبقى سؤال الشاعر “ما قيمة حياة واحدة إن كانت لا تكفي لمعرفة عشر الذات؟”، فأنت قصة قد تعرفها وحدك، وقد لا تعرفها، ومع ذلك من حق المرء “إنكار حياته إن هي لم تشبه مُناه”. وفي الختام رثاء لليلى الرفيقة “وليس أجمل من هذه المناداة” لأنها جعلته بكرمها يحسب نفسه، بينهما، هو الأقوى، والحقيقة أنه “الضعيف الأضعف”.
التمرد صفة الوديع إذ يضيق صدره بالظلم، ليس غضب الأحمق.. ولا انتقام العاجز، كثيرون يخلطون بينه وبين الثورة، فالثورة حركة جماعية للاستيلاء على السلطة.. الثورة مجتمع والتمرد عزلة، ومع ذلك يبقى الفكر المتمرد (الأنبياء والشعراء والعلماء والمفكرين والفنانين) اكثر إلهاماً من الثورات كلها، حينما يصير الحلم للحالم بقدر ما هو لغير الحالم. ثماره عامة. كالإيمان. والإيمان لا يفعل المعجزات لصاحبه وحده، بل غالباً لسواه. الحلم إيمان النائم، ولو كان صاحياً. لكن ما يتحقق من الحلم ليس سعادة، وإنما هو انتباه يحفز على البدء بحلم جديد أقل هشاشة. ويحضر وهم الشهرة، وتتكفل بذلك الشاشة، هذا السحر الذي يكفل الشهرة للجميع.. وبسبب التلفزيون حالياً والسينما منذ ثلاثينيات القرن العشرين لحظة “الجميع مشهورون”. ولا يتسع الوقت للتأمل، أما الكتابة الصحافية فإن أبرز ما يؤثر فيها انطباعيتها الفورية “سريعة الزوال”. كل شيء بات في خدمة الإنسان، الذي تحبه كل الكائنات أكثر مما يحبها.. وخطأ الإنسان أنه أفضل ما في الكون، وجريمته تستمر باعتقاده أن يستطيع اللهو بأرواح الكائنات الأخرى لأنها لا تراه كما يراها.. وكل ما في الطبيعة أقوى مما يفعله الإنسان، إلا الدموع حمم البركان تحرق الأبرياء.. الدموع تعيد لهم الأمان.
وفي فصل الأدب، نرجسية الشعراء حين يتحدثون عن شعرهم تأخذ طابعاً هستيرياً أو تعصباً حزبياً. “المطلق” يسميه الشعراء، و”الطمع” تقول العامة، وفي كل الأحوال ليس أبشع من البخل، في الحياة ظلام وفي الأدب كلام “الصوفي يلغي الكلام عندما يفقد الوعي متحداً برؤاه. يغيب، في ما يغيب، الكلام”. والفنان الشاعر، يخلق الجمال، بل، مع ذلك، هو من يؤجج الشعور بنواقصه حين يسلط الحواس على شروطه وما يتهدده. إلا أن الشعراء يعوضون بانكسارهم للمرأة عن المفكرين والأدباء في تقصير بحثهم عن الحقيقة السياسية والاجتماعية والدينية او عدم قولهم لها. الفلسفة كانت وتبقى في كل كتابة أدبية تعبر عن تجربة حية، ولا شعر بلا عصارة فكرية.. فلسفة، فكر، ومن دون تردد أضيف: “علم بمعنى المعرفة، أليس في شعر المتصوفة علم؟ وعند المعري وشكسبير.. الشاعر علّامة”.
أما أدب الحفاوة فلا يثير سوى النفور، “قرأت عن آداب الحفاوة بأحمد فارس الشدياق وأمين الريحاني وجبران ومي وأحمد شوقي وأمين نخلة وشفيق معلوف وسواهم أكثر مما قرأت نقداً لأدبهم”، أما كل كتابة لا تنبع عن جرح، لا تدخل.. الجرح العميق لا يبرر أشد الكتابات جنوحاً، فحسب، بل يبارك قارئها. ومن ذلك ذرى أبو نواس الانحدار وليس الأمجاد، وبالتالي فإن الأديب الذي يكتب ليثبت لنفسه “مكاناً في التريخ” هو شخص يمشي عكس السير الذي هو مقدر له. إن دوره أن يُنسي الآخرين مرور الزمن، لأن ما يمكث من الحياة ما قاله الموت لفيكتور هوغو: “كن أوديب حياتك وأبا هول قبرك”.
ويبقى سؤال الشك وكلمة الفصل والختام “لا أعرف إن كنت شاعراً..أحياناً أشك وأنفي عن نفسي الصفة.. لا أعرف ما أنا.. ولم أتوقف عن المرور إلى جانب حياتي”.
“المدن”