نعم. عندما يتصارع «الدب الروسي» و«النسر الأمريكي» ينتصر «التنين الصيني». وفي «حرب أوكرانيا» الحالية، فإن يد بوتين هي العليا.
ليس غريباً ولا مفاجئاً أن تتصرف أمريكا على النحو الذي نراه ونتابعه هذه الأيام. فلم يحصل في التاريخ الذي نعرفه أن تنازلت إمبراطورية طواعية وبهدوء عن موقعها في قمّة هرم الهيمنة، ووضع قواعد وقوانين النِّظام العالمي، دون بذل محاولات مستميتة لإطالة عُمر بقائها في موقعها. ولا يقتصر هذا التعميم على أحداث القرون القليلة الماضية. هذا هو الحال على مدى الألفي سنة ميلادية، كما هو على بضع الألفيات التي سبقته. من سومر وبابل وآشور والإغريق والرومان والفرس والعرب، وصولاً الى نهاية هيمنة الإمبراطورية العثمانية مع بداية القرن العشرين، ونهاية هيمنة الإمبراطورية البريطانية (العظمى) التي لم تكن تغيب الشمس عنها، في منتصف القرن الماضي، عند فشل العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، بفعل صمود مصر كأساس، وبفعل توافق أمريكي سوفياتي، في حينه، قام على ذلك الأساس.
هكذا انتهت عهود كل الإمبراطوريات. وهكذا تولّت إمبراطوريات جديدة مسؤولية وضع نظام عالمي يلبّي مصالحها، حتى قبل قرون من نحت تعبير «نظام عالمي».
ها قد مرّ يوم الأربعاء، أمس، السادس عشر من شباط/فبراير الحالي، ولم تغزُ جنازير دبابات الجيش الروسي أراضي أوكرانيا، كما «بشّر» الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وكبار أعضاء إدارته، وتابعيه في أوروبا، وأولهم رئيس الحكومة البريطانية.
لم تُطلق المدافع الروسية حتى ولا قذيفة واحدة. لكن صدى صوت انفجارات الحرب التي شنّها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على أوكرانيا والولايات المتحدة والعديد من دول أوروبا، الغربية والشرقية والوسطى أيضاً، وخاصة على دول حلف شمال الأطلسسي (الناتو) وحلفائه، تصُمّ الآذان في قارات العالم الخمس.
مخطئٌ كل من يعتقد أن «الحرب» لم تندلع بعد. ومخطئٌ كل من يعتقد أن هذه «الحرب» قد انتهت. لكنها ليست حرباً كالحروب التقليدية التي نعرفها منذ آلاف السنين. إنها حرب حقيقية، لم تُرَق فيها قطرة دمٍ واحدة، لا بسيف ولا برمح أو سهم، لا بطلقة مسدّس ولا بقذيفة مدفع أو صاروخ. إنها حرب أعصاب، حرب نفسية، حرب إرادات.
خاض بوتين هذه «الحرب» كرئيس، وهو يخرج منها كزعيم. وهذا بمنظور تاريخي لكلمة «زعيم». ويضع نفسه في رفقة مشرِّفة مع زعماء التاريخ الذين أسّسوا دولاً وإمبراطوريات، وكان من بين هؤلاء، في عصرنا الحديث، لينين وتيتو وماو تسي تونغ وبن غوريون والخميني ونيلسون مانديلا.
أسّس لينين «الإتحاد السوفياتي» وقاده من بعده، باقتدار، ستالين وخروتشوف، ثم بدأت مرحلة الغروب مع بريجينيف، وجاء موعد الدفن في عهد غوربتشوف، و«رقص» يلتسين على القبر، الى أن جاء بوتين، أحد أهم دهاة هذه الأيام، فأعاد لروسيا دورها كشريك فاعل وحاسم في رسم «النظام العالي».
أعاد بوتين، (الذي وصل الى كرسي الرئاسة في روسيا الإتحادية في أيار/مايو 2000) بناء الجيش الروسي في أقل من عقدين. وأعاد فرض روسيا دولة عظمى عالمياً، وليس مجرّد دولة ذات حضور إقليمي أو أوروبي على غرار ما ارتضاه غوربتشيف ويلتسين من بعده.
تُقاس القُدرة الحقيقية لقوة الجيش، (أي جيش) في عدم استخدامه. مجرّد حضوره الحاسم في معادلة عناصر القوة المتوفرة لأي دولة، يضمن للدولة تأمين مصالحها. فالجيش القوي يثبت قدرته في الرّدع، وكلّما لجأ الجيش الى استخدام قوته العسكرية أثبت فشله في تحقيق الهدف الأساسي الذي تمّ إنشاؤه من أجله. وقد أثبت بوتين، القائد الأعلى للجيش الروسي، أنه يملك من الحكمة والحنكة والدّهاء، ما يمكّنه من تحقيق مصالح روسيا باستخدام قدرة الجيش الروسي على «الردع» دون الاضطرار الى إطلاق رصاصة واحدة.
إنها حرب حقيقية، لم تُرَق فيها قطرة دمٍ واحدة، لا بسيف ولا برمح أو سهم، لا بطلقة مسدّس ولا بقذيفة مدفع أو صاروخ. إنها حرب أعصاب، حرب نفسية، حرب إرادات
مسكينة أوكرانيا، (أو قُل الفئات من الشعب الأوكراني التي حاولت، وتحاول، التّمرّد والتّنمرد على جارتها الكبرى، روسيا، وتهديد مصالحها العليا في حفظ أمنها، وحفظ دورها العالمي). إنها تدفع هذه الأيام ثمن خطئها/خطيئتها في توقيعها يوم 5 ديسمبر/كانون الأول سنة 1994، على «مذكّرة بودابست» الى جانب قادة كلٍّ من روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا، التي تخلّت بموجبها عن أسلحتها النووية، مقابل حصولها على تعويضات مالية و«ضمانات أمنية»(!) لم تسعفها في أول تجربة مواجهة جدّية.
كيف يمكن لهذه الأحداث الجسام أن تنعكس على العالم، وعلى منطقتنا، وعلى فلسطين وإسرائيل بشكل خاص؟.
على الصعيد العالمي ستخسر أمريكا دورها على قمّة هرم فرض «النظام العالمي» كقوة وحيدة، على النحو الذي كان سائداً منذ انهيار الإتحاد السوفياتي سنة 1990. ساهم الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في تكبيد أمريكا خسارة تحالفها المتين مع دول أوروبا الغربية، وخسارة حضورها القوي والحاسم في الشرق الاوسط، بسبب حماقة الاستجابة المطلقة لهلوسات نتنياهو في «صفقة القرن» (بفعل الرفض الفلسطيني القاطع لها) وفقدت أمريكا مصداقيتها بقرار ترامب الأحمق الإنسحاب من الإتفاق النووي مع إيران، (وهو ما أعطى لإيران فرصة ذهبية استغلتها بحكمة وذكاء). وساهم الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، في تكبيد أمريكا خسارات لاحقة: طريقة الانسحاب من أفغانستان وما رافق ذلك؛ انكشاف ضعفه في تمرير ما قرره هو بخصوص إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن؛ محاولات بائسة في مفاوضات إعادة أمريكا الى اتفاقية إيران+5، وتمكين إيران من فرض جدول الأعمال لتلك المفاوضات، بل وجدولها الزمني أيضاً؛ يضاف إلى ذلك طريقة التهويش المبالغ به، والتجييش، خلال الأسبوعين الماضيين خاصة، لحرب تمّ ويتمّ خوضها وحسمها دون اطلاق قذائف مدفعية ولا صواريخ.
يترنّح دور أمريكا كقوة منفردة على رأس العالم منذ سنين. لكن علامات سقوط هذا الدّور تبدو واضحة الآن، حيث نقف اليوم على عتبة عالم جديد برؤوس ثلاثة: أمريكا والصين وروسيا. هذه تجربة جديدة لم نعهدها من قبل.
الرابحون الكبار في «حرب أوكرانيا» حتى الآن هم روسيا بطبيعة الحال نتيجة دورها في ساحة الصراع، والصين.. ربحت، وتربح وهي مستريحة على «مقاعد المتفرجين» حتى أنها لم تضطر الى الإنتقال الى «مقاعد لاعبي الإحتياط». يضاف الى نادي الرابحين الكبار ايران أيضاً، حيث كل اهتزاز في صورة أمريكا ومن بقي معها من حلفاء، (وأوّلهم بريطانيا طبعاً) هو ربح صافٍ لإيران ودون بذل اي جهد.
في صفّ الخاسرين تحتل أوكرانيا المقعد الأول، وللدقة: يحتل هذا المقعد نظام الحكم الحالي في أوكرانيا، ورئيسها فلوديمير زيلينسكي، (وهو، بالمناسبة، يهودي، وكثيرون يعتقدون أنه صهيوني ايضاً، ووصل الى كرسي الرئاسة هناك في انتخابات 2019، بعد أن انتقل من مهنته الأولى كممثل كوميدي مباشرة الى العمل السياسي، وأنشأ حزبه «خادمي الشعب» قبل اشهر فقط من تلك الانتخابات).
إسرائيل هي الثاني في مسلسل الخاسرين، ويبدو ذلك واضحاً في الإرتباك الذي يلف خطواتها منذ التصاعد الكبير في الأسابيع الأخيرة، ومنذ اندلاع وتصاعد وتيرة «حرب أوكرانيا». فهي التي كانت المستفيد الأول من إمساك العصا بين موسكو وكييف، لم يعد لهذه العصىا وسط، واضطرت الى عدم الإستجابة لطلب أوكرانيا تزويدها ببعض أنواع الأسلحة، وأهمها «القبّة الحديدية» رغم أنها سلاح دفاعي وليس سلاحاً هجومياً، خشية أن تغضب روسيا لو أقدمت على هذه الحماقة.(دون أن ننسى من التذكير، في هذا السياق، أن صواريخ حركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزّة، كشفت و«فضحت» في أيار/مايو الماضي، زيف القدرة «الخارقة» للقبة الحديدية في مواجهة أي رشّات كثيفة من صواريخ بسيطة وبدائية).
لا تملك إسرائيل قوة ذاتية حقيقية. ما تملكه هو قوة تحالفاتها. هكذا في التاريخ، وهكذا في الحاضر، ولا نخطئ أبداً عندما نجزم أن ذلك صحيح في المستقبل أيضاً.
يبقى أخيراً السؤال: أين فلسطين في كل هذا المعمعان؟. والجواب: إنها غائبة، لسوء حظّنا.
كاتب فلسطيني