من أهم ملامح الخصوصية الإبداعية للرواية العربية، أنها ساهمت في نهضة اللغة العربية، وردّت على كثير من التهم التي راجت – ولا تزال للأسف – عن صعوبة اللغة العربية وأنها غير قادرة على استيعاب الأفكار المجردة، وإن هي فعلت ذلك، فلن تكون قادرة على التعبير الإبداعي في أشكاله الحديثة – كما يشير المستشرق شوبي Shouby – نظرا للطبيعة الصارمة للنحو العربي، ووجود مئات المترادفات، إلى جانب شيوع العامية جنبا إلى جنب مع الفصحى، وقد أوجد مستويين لغويين في الاستعمال اللغوي لدى الجمهور العربي، مع غموض بعض التراكيب، ما يحدّ من المرونة أو الليونة اللغوية، ثم الفكرية في عملية التعبير والصياغة، كما شكك المستشرق لافين Laffin في قدرة اللغة العربية على أن تكون أداة لإقامة تفكير منطقي، بالنسبة إلى نظامها اللغوي، والدليل عدم قدرتها على استيعاب الكلمات الأجنبية، لإصرارها على استخدام نظام الصرف العربي، وكانت النظرية الأساسية في الهجوم على العربية مستندة إلى فرضية الحتمية اللغوية Lingustics Relativity Hypoththesis، وترى أن اللغة وعاء يتشكل فيه الفكر، وأن هناك علاقة عضوية بين اللغة والفكر، وأن مشكلة اللغة العربية أنها خالية من بعض الفئات التركيبية النحوية، فهي عاجزة عن التعبير عن القضايا العلمية لأن أسسها هشة.
وهي آراء متولدة عن الرؤية الاستشراقية الغربية للغة العربية، التي تقيسها على اللغات الأوروبية الحديثة، وكيف استطاعت أن تكون وعاء وأداة للعلوم الحديثة والإبداعات الجديدة، وقد طالب المستشرقون بنشر اللغات الأجنبية الرئيسية مثل، الإنكليزية والفرنسية في البلدان الرازحة تحت الاحتلال الغربي، وهو ما تم بالفعل؛ أو بنشر العاميات العربية، أسوة بما حدث للغة اللاتينية، وتحول لهجاتها إلى لغات مستقلة، وصار الإبداع متاحا بها، في المسرح والرواية والقص والغناء.
ولعل الإبداع العربي الحديث عامة، والإبداع الروائي خاصة، يمثّل أكبر رد على هذه الدعاوى، التي تواكبت مع الحملة الاستعمارية على العالم العربي، فالرواية شكل غربي: طرحا ورؤية وفكرا، وجاءت إلى العالم العربي مترجمة أو مقتبسة، ووجدت تربة خصبة من التلقي لدى عموم القراء العرب، ما يعني أن الذهنية العربية متفتحة على مختلف الإبداعات العالمية، وأنها تتذوق الجديد منها، وليست حبيسة الإبداع التراثي. وجاء الإبداع الروائي العربي بأساليب مبدعة متنوعة، فجعل مذاقا جديدا للغة العربية وهي تعبر عن الروح السردية العربية الحديثة، وكانت أبلغ رد على أن العربية ليست قاصرة عن استيعاب سائر العلوم والفنون والآداب، والعبرة بالتطبيق الكائن، وليس بالفرضيات المشككة، في زمان كان العرب تحت الهيمنة الاستعمارية، ويعانون من التأخر الحضاري والنهضوي. لذا، عندما نقرأ المشهد الروائي العربي، قراءة زمنية، نكتشف تراكما إبداعيا هائلا؛ جعل للرواية العربية ملامحها المستقلة والفريدة، على مستوى الأساليب السردية التي تنوعت وأبدعت في صياغاتها، وعلى مستوى البنى المدهشة، ومنها ما يمتاح من التراث العربي، أو يعيد توظيف سرديات عربية قديمة أو أساطير سابقة من حضارات شرق أوسطية قديمة مثل الحضارات الفرعونية والبابلية والآشورية والفينيقية.
لولا الإبداعات العربية الروائية المؤلفة على امتداد عقود طويلة، لما استطعنا أن نطلق مصطلح الخصوصية على الرواية العربية.
كما استطاعت التعبير عن أبرز قضايا الإنسان العربي وهمومه خلال الحقب الزمنية الماضية؛ ما دعا جابر عصفور إلى نعت الزمن العربي الحالي بأنه زمن الرواية، استنادا إلى مؤشرات إحصائية دالة على شيوع فن القصة وسيطرة الرواية على غيرها من الأنواع، لدى المتلقي العربي؛ حيث غدت الرواية النوع الجاذب لمزيد من القراء في مختلف الطبقات والقطاعات والمجالات، يضاف إلى ذلك قدرة الرواية على التقاط الأنغام المتباعدة، والمتنافرة، والمركبة، ومتغايرة الخواص؛ لإيقاع عصرنا، وأيضا قدرتها على تجسيد المشكلات النوعية لأبناء العروبة، بما يتميز به النسيج الروائي بتأليفه لعناصر مختلفة، ولخاصية الحوار التي يمكن أن تجمع بين الأضداد، وتصل في ما بينها بواسطة الجدل بين الشخصيات، إلى جانب التنوع في الأحداث ومستويات اللغة، ضمن شبكة من المكونات والأبعاد، تساهم في تحقيق التواصل بين البشر، بل إن الرواية العربية يمكنها الاستفادة من الأنواع الأدبية الأخرى، مثل تفجر عنصر الشعرية في أسلوبية الرواية، على نحو ما يذكر جابر في عصفور في كتابه «زمن الرواية» بأن هناك روايات عربية تناغمَ الشعريُّ والنثريُّ في بنياتها، وأيضا استفادت من تقنيات السينما والمسرح، وهو ما يفسر نزوع الروائيين العرب إلى التجريب والمغامرة بعد مرحلة النضج، ما أنتج نصوصا عربية في مستوى ورؤى عالمية. فلولا الإبداعات العربية الروائية المؤلفة على امتداد عقود طويلة، لما استطعنا أن نطلق مصطلح الخصوصية على الرواية العربية.
أما قضية الكتابة بالعامية أو الفصحى، فقد عولجت في الرواية في شكل إبداعي، حيث يمكن توظيف العامية في الحوارات، بينما يُكتب المتن السردي بالفصحى، ما حفظ جماليات العامية ودلالات تراكيبها، بل جعلها مفهومة للقراء العرب على اختلاف أقطار العروبة، وهناك من التزم الفصحى متنا وحوارا، تقديرا للفصحى.
من هنا نذهب إلى القول إن الأمر يستلزم «إرادة المعرفة» كجزء من خطاب المعرفة في الرد على الآخر الغربي (الاستشراق) خاصة ما ينتمي منه إلى خطاب الدراسة الأدبية التراثي والحديث، ويجب أن يظهر في الدراسات والبحوث المنهجية، التي تبرهن على إبداع الإنسان العربي وتميزه حديثا مثلما كان قديما، ويصاغ ذلك في مصطلحات ذات صفة إبداعية، تشع بالفعل الإنساني العربي، ففرق بين مصطلح تبدعه الذات العربية، ومصطلح يأتي مستوردا من الثقافات الأجنبية، وهو ما ننادي به، بأن تكون الخصوصية الروائية العربية معبرة عن إرادة المعرفة، التي تجسد اعتزازنا بالهوية السردية العربية، وتصاغ في دراسات منهجية نقدية ترسخها. فالهدف هو تقديم رؤية جامعة للرواية العربية، تكشف تميزها، والمشترك في إبداعها، وأيضا تنوعاتها، وقدرتها على التعبير عن هموم الإنسان العربي وقضاياه.
كاتب مصري
“القدس العربي”