بعد عقود من مجزرة حماة الدموية، تمكّن رئيس النظام السوري بشار الأسد من التشبّث بالسلطة، مثل والده، تحت أنظار القوى العالمية.
فلقد كانت الحرب السورية كارثة بكل المقاييس. فمن حملة قمع وحشية قادت إلى قيام تمرد مسلح إلى دخول قوتين عالميتين، وقوتين إقليميتين، وآلاف المقاتلين من دول مختلفة. وقد أدّى الصراع إلى تهجير ثلثَيْ سكان سورية، أي ما يقرب من نصف أولئك الذين أُجبروا على الخروج من البلاد بشكل قسري.
ليس من المستغرب أن يكون نظام الأسد قد تشبث بدمشق حتى أن معظم البلاد المتبقية إما خاضعة لسيطرة أجنبية أو مشتعلة نتيجة معارك وصراعات. ويصادف هذا الشهر ذكرى مرور أربعين عاماً على مذبحة شباط/ فبراير من عام 1982 في حماة، والتي أنهت خمس سنوات من استيلاء المعارضة بالقوة والحديد والنار.
بعد عقود، وفي حملة القمع عام 2011، اتّبع بشار الأسد الطريقة السابقة التي أسّس لها والده حافظ في حماة: استغلال السياسة الخارجية بطريقة ماكرة حيث كان النظام لا غنى عنه بالنسبة لأي من القوى الأجنبية، كضمان للقمع المحلي على الطريقة الفرعونية.
لقد كذّبت سياسة الأسد الخارجية الساخرة مراراً وتكراراً الاحتجاجات البريئة للمساءلة والعدالة الدولية، وقد دفعت سورية -الدولة وسكانها- ثمن سيطرة النظام.
وقد كان من الشائع في أوائل عام 2010 سماع مقارنات بين ليبيا، التي وقع زعيمها معمر القذافي فريسة لثورة بمساعدة أجنبية، وبين سورية. ولقد فاتت مثلَ هذه المقارنات نقطةٌ أساسية: وهي أن 40 عاماً من عدم القدرة على التنبؤ بسلوك القذافي كلفته التدخل والدعم الدولي ضده، وعلى الرغم من احتجاج العديد من الدول، ولا سيما روسيا على مثل هذا التدخّل، فقد سارعت القوى الخارجية بتقديم الدعم لمعارضته، ولم يتدخل أحد للدفاع عنه.
في المقابل، جعل آل الأسد أنفسهم لا غنى عنهم إقليمياً، ليس فقط لموسكو، التي تربطهم بها علاقة طويلة ووثيقة، ولكن حتى لواشنطن، التي تتسم علاقتها بالحب والعداوة دائماً مع النظام مما أدى إلى الحفاظ عليه في الأوقات العصيبة التي مرّ بها.
وبعيداً عن تغيير النظام على النمط الليبي، فلقد أشارت العديد من الدلائل إلى تخلّي الولايات المتحدة عن محاولات الإطاحة بالأسد في وقت مبكر، وذلك لعدة أسباب.
هذه العلاقة مع الولايات المتحدة موروثة عن حافظ الأسد، الذي كان استيلاؤه على السلطة في عام 1970 ذروة عقد من عدم الاستقرار في السياسة السورية، وكان الأخير بين عدد مذهل من الانقلابات والتمردات.
وكان الجيش الذي سيطر على السياسة السورية هو نفسه مليئاً بالتيارات السياسية. فحزب البعث الذي من المفترض أنه قدّم الزخم الأيديولوجي لفصيل الأسد انضم إلى المعارضة في الخارج. ودفع هذا العديد من المراقبين إلى تسمية دمشق في الستينيات بنظام البعث الجديد المؤلف من ضباط متنافسين، معظمهم من الأقليات السورية.
كما هو الحال في الوقت الحاضر، عندما جعلت معارضته للمسلحين المتطرفين بشار معروفاً في الأوساط الدولية، خلال سبعينيات القرن الماضي، استغل حافظ المخاوف الإقليمية بشأن الجماعات الفلسطينية المسلحة. وكما هو حال منافسيه في عمّان والقاهرة، اعتبرهم حافظ تأثيراً مزعزعاً للاستقرار – يمكن أن يجرّهم إلى حرب مع إسرائيل، أو يعطّل السياسة الداخلية – وبالتالي يجب أن يظلّوا تابعين لمصالح الدولة.
وبالتالي، فقد حاول بشكل خاص تقويض حركة فتح ذات الأهمية، باستخدام الجماعات المتنافسة كقوة موازنة والتلاعب المستمر بالانقسامات في الصفوف الفلسطينية. وعلى الرغم من تاريخ حروب سورية مع إسرائيل، كان يُنظر إلى الأسد، مقارنة بالفلسطينيين، على أنه شرّ لا بدّ منه من قبل تل أبيب وداعمها الرئيسي، الولايات المتحدة. وينطبق الشيء نفسه اليوم على المعارضة السورية.
وقد كانت فائدة الأسد كقوة ضد المسلحين الفلسطينيين أكثر وضوحاً في لبنان.
وبهذه الحالة فقد أدى الوجود الفلسطيني العسكري الكبير والغارات الإسرائيلية العنيفة المتكررة إلى تفاقم الانقسام الاجتماعي والسياسي الطويل الأمد. وفي عملية الاستقطاب التي أعقبت ذلك، انجرفت معظم الفصائل الفلسطينية إلى فلك المعارضة اللبنانية.
وتدخل الأسد ودعم الميليشيات المارونية في حصار وذبح المخيمات الفلسطينية عام 1976. وعلى الرغم من انتماء الأسد إلى الكتلة السوفيتية، إلا أن واشنطن وافقت على ذلك وتشارك دمشق مخاوفها من أن تزعزع الجماعات الفلسطينية المسلحة النظام الإقليمي.
هكذا بدأت ثلاثون سنة من الحكم السوري في لبنان. وليس من قبيل الصدفة، أنها أثارت أيضاً تمرداً بين الأغلبية السنية في سورية، والتي كانت تربطها صلات طويلة بالجماعات الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن النظام ساوى بين الثورة السورية الحالية وتمرُّد الإخوان المسلمين المحظورين، إلا أن جماعة الإخوان المسلمين لم تمارس سوى سلطة جزئية في تحالف مع قادتها في المنفى، بينما قاد القتال على الأرض قادة مستقلون مثل عدنان عقلة. وهناك مقارنة مرة أخرى مع العَقْد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث اتُّهمت المعارضة المنفية والمنفصلة إلى حد كبير عن المتحدثين الرسميين المنفيين بأنها حيلة الإخوان.
فلطالما شَكَتِ الغالبية السنّية من نظام البعث الجديد في سورية وقد كانت حماة قد شهدت بالفعل ثورة قصيرة في ربيع عام 1964. وقد حاول الأسد الأب مع بعض النجاح إقامة علاقات مع النخب الاقتصادية السُّنية، وفي سياسة أخرى ورثها ابنُه، استخدم تهديد سيطرة الأغلبية لموازنة نظامه العلماني بالأمن مع الأقليات في سورية.
في الواقع، عاشت الأغلبية السُّنية في سورية مع أقليات البلد منذ فترة طويلة: والحالة الطائفية لم يكن بأي حال من الأحوال محصوراً أو نموذجياً خاصاً بالسُنّة. لكن الأسد – الذي هيمنت على نظامه شبكة صغيرة -وخاصة الجناح الاستخباري المؤثر في سلاح الجو الذي ينتمي إليه- كان حريصاً على تصوير نفسه في الداخل والخارج على أنه حامي الأقليات فضلاً عن سليل الاستقرار الإقليمي. وقد أثبتت هذه الإستراتيجية فعّاليتها اليوم بالنسبة لبشار، حتى مع دعم الميليشيات الطائفية للطوائف الأخرى لنظامه.
ولقد تصاعدت الحرب السورية في أوائل الثمانينيات. ثم، كما في 2010، تعرضت حلب للحصار. في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، قادت عائلة الديكتاتور المعركة. وبنفس القدر الذي أصبح فيه ماهر الأسد رجل الجيش الجزار، اعتمد حافظ على شقيقه رفعت لسحق الثورة بقوة غاشمة.
وصاحب الاستيلاءَ على حماة مجزرةٌ شاملةٌ. حيث ما لا يقل عن 10000 شخص -إن لم يكن عدة أضعاف هذا الرقم- تم ذبحهم في مدينة متواضعة الحجم. وقد أدّت الصدمة والرعب إلى إرهاب الثائرين مؤقتاً ودفعهم إلى الاستسلام، لكن الندوب عاودت الظهور عندما حاول النظام تطبيق نفس الإستراتيجية في عام 2011.
هذا وقد شهدت حرب الثمانينيات، كما في عام 2010، قيام عائلة الأسد باستغلال فائدتهم الجيوسياسية للعديد من القوى، ومعارضتهم للتشدد الإقليمي، وابتزازهم الفعّال لمجتمعات الأقلية لشنّ العنف دون قيود.
مرة أخرى، أثبتت إستراتيجيتهم أن معظم الحكومات، بشكل علني أو غير ذلك، تقبل بهذه التكلفة على أنها سعر مقبول لنظام “يمكن التنبؤ به” في دمشق. على عكس الثمانينيات من القرن الماضي، فإن حرب اليوم لا تُظهر بوادرَ تُذكَر للانحسار.
“نداء بوست”