ما زالت ارتدادات عزو أوكرانيا على مستوى العالم تظهر تباعاً، نظراً لأهمية هذه الحرب، جغرافياً وسياسياً، ووقعها مستقبلاً على قضايا أخرى، ومنها تلك البعيدة جغرافياً. اليوم، بالإمكان تحديد ثلاثة انعكاسات أولية.
بداية، ستُنتج هذه الحرب عالماً أكثر تسلحاً، بدءاً من أوروبا. كان لافتاً رد الفعل الأوروبي، إن لجهة تزويد أوكرانيا بالسلاح من أجل مقاومة الغزو الروسي، أو لناحية رفع مستوى الانفاق الحربي في البلدان الأعضاء.
على سبيل المثال لا الحصر، ألمانيا اتخذت قراراً تاريخياً في تزويد أوكرانيا بالأسلحة والآليات، رغم أنها اليوم منطقة نزاع. هذا غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، إذ أن سياسة برلين ثابتة حيال تجنب توفير الدعم العسكري خلال نزاع.
وهذا الموقف الألماني الجديد ينمّ عن “تحول كبير” في السياستين الخارجية والدفاعية على وقع الحرب، كما جاء في كلمة المستشار الألماني أولاف شولتس يوم أمس. “مع غزو أوكرانيا، أصبحنا في حقبة جديدة”، قال شولتس، ولهذا رفع الموازنة العسكرية بقيمة مئة مليار يورو لتعزيز قدرات الجيش الألماني.
ستستثمر ألمانيا “من الآن وصاعداً، وعاماً بعد عام، أكثر من اثنين في المئة من إجمالي ناتجها المحلي في قطاعنا الدفاعي”، بحسب شولتس، بهدف ضمان نمو القوة العسكرية الألمانية والصناعات والابتكارات الحربية بالبلاد.
وهذا لن يقتصر على ألمانيا فحسب، بل سيشمل على الأغلب معظم الدول الأوروبية القلقة من مفاعيل غزو أوكرانيا وما يعنيه على مستوى العلاقات الدولية. ذاك أن هذه الدول كانت تُفضل الاستثمار في بنيتها التحتية واقتصادها، وتغليب النمو على الانفاق في المجال العسكري، مع الاعتماد على حلف الناتو والولايات المتحدة لتوفير الأمن.
مثل هذا الانفاق أحد أبرز انعكاسات الحرب الروسية في أوكرانيا، وسيستمر بعدها ليطبع الحياة العامة الأوروبية وسط تضخم لجيوشها وقدراتها العسكرية، استعداداً لمواجهة محتملة.
الانعكاس الثاني، اقتصادي، وعلى ارتباط بنتائج الغزو. روسيا ستصير معزولة دولياً على المستوى المالي والاقتصادي، وعليها البحث عن منافذ للتهرب من العقوبات، أكان عبر الصين أو إيران أو شبكات الجريمة. وهذه السياسة الغربية ستزيد من مستوى الاستقطاب والفرز، وستُحول كل مواجهة مع موسكو الى معركة وجودية مع نظام الرئيس فلاديمير بوتين. محاولة الخنق مالياً واقتصادياً لن تنحصر في هذا المجال، كما رأينا مع إيران التي زعزعت استقرار الخليج العربي ومبيعات النفط منه. لماذا علينا توقع سلوك روسي مغاير لذلك الايراني بعد عقوبات غزو أوكرانيا؟ بالتأكيد ستلجأ روسيا للتنمّر والتخريب كلما اتسعت ورطتها الاقتصادية.
ثالثاً، منطقة جنوب شرقي آسيا ستزداد توتراً ليس فقط نتيجة المخاوف المتصاعدة في جزيرة تايوان، وهي أكثر عرضة كونها سيادياً خاضعة للجانب الصيني (لا اعترافاً دولياً بتايوان)، بل كذلك نتيجة التوتر بين روسيا واليابان. هذان بلدان لديهما نزاع حدودي، مع سيطرة الاتحاد السوفييتي غداة الحرب العالمية الثانية على أربع جزر شمال جزيرة هوكايدو اليابانية (اسمها في اليابان “المناطق الشمالية” وفي روسيا “جزر كوريل الجنوبية”).
اليابان انضمت لقطار العقوبات على روسيا، وهذا من شأنه مفاقمة التوتر معها في آسيا كذلك (روسيا قوة آسيوية وأجرت مناورات مشتركة مع الصين قرب اليابان). استراتيجياً، على الولايات المتحدة اليوم زيادة تركيزها على أوروبا وحلفائها في القارة، لردع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، لكن ذلك قد يعني، ولو مرحلياً، إعادة النظر في سلم أولويات إدارة الرئيس جو بايدن بالسياسة الخارجية، وتحديداً احتواء الصين. قد يتطلب ردع بوتين تعاوناً مع الصين، تماماً كما تحتاج واشنطن الى بكين لانجاح مفاوضات فيينا.
يبقى أن الحرب الأوكرانية ورغم أنها تدور على بُعد آلاف الكيلومترات من الصين، وعلى أراضي قارة أخرى، إلا أن اسم بكين لا ينفك يبرز في كل تحليل عن المستفيدين. وفي حال التفاوض، قد تكون الوسيط الأكثر فاعلية.
“المدن”