يشهد التشكيل المصري حالياً رواجاً وتنوعاً، حيث موسم المعارض المعهود في فصل الشتاء، وهو ما يُتيح الوقوف أكثر على المشهد التشكيلي بوجه عام، بغض النظر عن تكرار بعض الأسماء وتكرار إنتاجها الفني أيضاً، وكأنها حالة من التعود أكثر منها حالة فنية تحرّض على التعبير من خلالها.
ولكن من ناحية أخرى نجد أن بعضا من الفنانين يواصل عمله الفني من خلال تأصيل أسلوبه، وإن كان في الوقت نفسه يستعرض تجديداً على مستوى الأفكار والموضوعات. كذلك يحاول البعض البحث في الموروث وإعادة توظيفه في العمل الفني في شكل أكثر حداثة، بحيث يصبح العمل الفني أكثر إثارة للتساؤلات، وصولاً إلى تحقيق حالة الإدهاش، وهي من السمات الهامة في العمل الفني. وفي كل من الحالتين نجد محاولة مستمرة لتجاوز المألوف أو السائد، سواء على مستوى تجربة الفنان نفسه، أو ما يحيطه من تجارب بشكل عام.
ومن الممكن مناقشة هذه المقولات من خلال أعمال كل من الفنانين جورج فكري وأحمد رفعت، وقد تزامن مصادفة مؤخراً إقامة معرضيهما «سرد» و«واحد مصري». مع ملاحظة أن هذه الأعمال على اختلاف أصحابها أسلوباً ورؤية، وفكراً بالأساس، وصولاً إلى التقنيات شديدة التباين، لكن وكما أسلفنا، هناك مَن تمسك بالأسطورة وواصل معالجتها فنياً، وهناك مَن حاول التأصيل والتواصل مع إرث حضاري قديم، لكنها في مجملها تحاول تجاوز الموروث البصري والمشهد التشكيلي الراهن في مصر، بما يعانيه من تكرار وركود جمالي، رغم الصخب الظاهر، من حيث إقامة المعارض وتكاثر الأعمال التشكيلية، ويؤكد هذا طابور الفنانين المنتظرين عرض أعمالهم في الغالريهات وقاعات العرض، بغض النظر عن القيمة والموهبة الفنية.
«سرد»
يعنون الفنان جورج فكري معرضه الذي أقامه مؤخراً في غاليري الزمالك للفن بـ «سرد» مع ملاحظة أن الفنان أقام معرضاً في عام 2015 بعنوان «بهجة السرد» وقد سقطت مفردة (البهجة) عن المعرض الحالي، وهو ما يبدو جلياً في اللوحات، رغم التقنية نفسها في كل من المعرضين، ولكننا بصدد حالة مختلفة تماماً عما كان وما هو كائن الآن بالفعل. هذه أول ملاحظة على المعرض. من ناحية أخرى تبدو الشخوص هنا أكثر سكوناً وتأملاً، عنها في المعرض السابق الموسوم بالبهجة، فربما تكون هي نفسها الشخوص، ولكن حالتها المختلفة هي التي تحتم معها إسقاط البهجة. ربما يؤكد هذا ما يعيشه الفنان ويلحظه في المجتمع المصري الآن.
وننتقل إلى مفردة الـ «سرد» نفسها، والتي توحي بحكاية أو شذرات بمعنى أدق من حكاية طويلة مختلفة الشخوص، وهنا نلمح حالات هؤلاء، وكل منهم يسرد فقرة أو جزءا من هذه الحكاية، بداية من الفارس المقدس فوق حصانه، كصورة من صور السيرة الشعبية المقدسة، مروراً بالفتاة المتوحدة بأفكارها التي تمنعها رحمة النوم، وصولاً إلى اللقاء بينها وبين حبيبها. لكن الحكاية لا تنتهي، وربما هناك جزء منها يخص العمل الشاق ــ العمل في ما يُشبه الحقل ــ وأخيراً وعلى استحياء ــ بغض النظر عن المعرض السابق ــ مشهد لثلاثة رجال يمسكون بمزاميرهم، قد تكون لحظة فرح ــ فهناك ثمّة أمل ــ أو أنهم يعملون أيضاً، فهذه مهنتهم.
كذلك نجد أن هذه الشخوص لا تبدو كما هي في الحقيقة، ولكن حسبما يراها خيال الفنان، معتمداً على تقنية الاختزال، وتداخل عدة عوالم وبيئات مختلفة، كما في الحكايات الشعبية ومأثوراتها الخرافية، وما بين الحِس بالواقع وتقنية الأساطير هذه تبدو المفارقة الجمالية التي يعمل من خلالها الفنان.
أما بالنسبة للمساحات اللونية، خاصة اللون الأحمر وتدرجاته، فهي ألوان غير مساومة أو متهاونة، حتى أن خلفية أغلب اللوحات مستمدة من عناصرها اللونية، وكأنها جزء غير منفصل عن عالم اللوحة، إلا لوحة العاشق ومعشوقته، حيث الخلفية الصفراء، والتي توحي بحالة من الانفصال عما حولهما وما يحيطهما، وكأنهما في عالم آخر. هذه الطبيعة اللونية وتوظيفها إما أنها رغبة شديدة في تخطي الراهن، أو التحايل على ما هو قائم في شكل حلم طويل لن ينتهي، حتى ولو تحقق بالفعل.
«واحد مصري»
وتأتي تجربة الفنان أحمد رفعت، من خلال معرضه «واحد مصري .. كتاب الفنان» والذي أقيم في قاعة الباب، في دار الأوبرا المصرية. هنا يواصل رفعت تجاربه في تنويع الخامات ومحاولة صياغتها في شكل وتكوين جديد يخدم فكرته. فعن طريق خامات شديدة التباين، خيوط، وألياف قطن وكتان، ونشارة الخشب، والمعدن، وصبغات مائية، بخلاف الرسم والطباعة. كل هذه الخامات يتم تطويعها في سبيل العمل الفني، هذا على مستوى التقنية.
أما بالنسبة لمعالجة الموضوع، فهو البحث المستمر عن الروح المصرية، من خلال الطقوس والعادات، وصولاً إلى الإرث البصري القديم، الذي يعرفه المصريون جيداً، حتى ولو تناسوا أنه رصيدهم الحضاري. ويقسم رفعت معرضه إلى أعمال تنحو إلى التجريد، وأخرى أطلق عليها «الحارة المصرية» وأخيرة أطلق عليها «كتاب الفنان». ففي الأولى يحاول أن يصنع رؤية بصرية توحي بالقِدم، مع فكرة توظيف الخامات المتنوعة، وصياغتها في حالة أخرى ودلالة مختلفة، أختام كما في رسائل البريد القديمة، ومقتطفات من صور لأماكن توحي للمتلقي أكثر مما توضح أو تشرح، فكرة معايشة الحالة أكثر من الاستنتاج البسيط للمشهد أو اللوحة. أما الحارة المصرية فتقوم بالأساس على طباعة منظر أو مشهد حقيقي لحارة مصرية عتيقة وكذلك شخوصها، صور معهودة للقاهرة القديمة، كما في الصور الفوتوغرافية للقاهرة في بدايات القرن الفائت، لكن الفنان لا يكتفي بالصورة وتأثيرها، ولكن يضيف إليها من الخامات ما يؤكد حِسها التراثي كألياف القطن والكتان، والرسم والتلوين. وفي الأخير يأتي الجزء المُسمى بكتاب الفنان، وهنا يتم تنفيذ العمل على شكل كتاب أثري يستند إلى الطباعة البارزة وبعض الخامات المعدنية والوبر والألياف، وكأنها برديات قديمة من خامات أشد صلابة، إضافة إلى النقوش والحروف التي توحي بأننا أمام جدارية من جداريات الفن المصري القديم، ولكن تبدو المفارقة في وجود مفتاح الحياة والحروف العربية هذه المرّة، وليست الأبجدية المصرية القديمة، كما هو معهود، وكأنها حالة من الاستمرارية من الحضارة القادرة على استيعاب كل تغيير أو كل ما يُستجد.
كذلك يكتب أحمد رفعت أمام هذه الأعمال أن للمتلقي الحق في تصفح الكتاب/العمل، وكأننا في حالة من حالات الاكتشاف بما يحتويه أو يخفيه هذا العمل أو اللفائف الحديثة الصُنع، بدون نسيان اختلاق حالة من التواصل بين ما يوحي به العمل وخاماته، بوضع الصورة المعهودة لتمثال نهضة مصر الشهير لمحمود مختار.
“القدس العربي”