«أصلٌ»، وحنين إلى الأصل، بكلمة من لغة أخرى، وعودة خفيفة برسائل ما تُحمّل الحيواتُ المتداخلةُ الشاعرَ، لنفسه، في حياة ربما كانها، «بنفسجة يحنّ إليها»، أو حياة سيكونها، إذ هو لا يعرف إن كان ميتاً ويعود، حيث «الحبّ ليس إلا قلوبنا غير المكتملة»، و«حيث الماضي هو ما سيأتي»، «حين نتوصّل إلى مراقبة الوردة في طور تحوُّلِها إلى بحر». وحيث القصيدة التي نكتبها هي ما يكتبنا كذلك، حين تجد القصيدةُ الذاتَ الشاعرةَ الكائنةَ ساحةَ انصهارٍ للذوات وللأشياء في موتها وتشكّلها الجديد، في ممرِّ ما اصطُلح على تسميته «الكتابة الآلية» من قبل السوريالية. وحين تخرج، «كما ينبغي للّغة أن تكون»، بصرخة ولادةٍ جديدة، نسميها العنقاء أو طائر الفينيق الذي يخرج من موته، بصورته وغير صورته، كما يحدث في قصيدة «أصل»، وقصيدة «DOR»/ الحنين، أو قصيدة «خوان رولفو، الأشباح، العرب والبيت» التي نقتطف منها ما نظن أنه يمثّل أو يحيط بكون شاعرته، وهو قاصرٌ عن هذا الكون عندما تقترب سفن قراءتنا قليلاً من القمة ليتجلى أمامها جبلُ الجليد:
«تساءلتُ إن كنتُ رأيتهم جميعاً
أو رأوني،
إن متُّ دون أن أدري،
إن لم يكن الموت أكثر من خدعةٍ.
ثم جاء حبيبي،
قبّل جبيني
وقال إنه لم يرهمْ
وهم يدخلون المرآة،
واحداً وراء الآخر،
يلوّحون تلويحة الوداع.
لعلنا نرى أولئك الذين
لم نفصح عن مدى حبّنا لهم
لكنْ مَن يدري إذا كنّا حقاً هناك،
إذا كان البيت قد وُجِدَ أصلاً،
إذا كان خوان قد ألّفَ
كتابه بينما كنا نغني بإسبانية
تمتزج بلكنات عربية».
الشاعرة الأمريكية الفلسطينية الجذور، العالمية الأغصان ناتالي حنظل، هي، في مجازٍ لا يُنقص بهاء كونها الإنساني، ساحةَ انصهار أخاذة للذوات والأشياء في موتها وتحولاتها وقيامتها كقصيدة تجسّد البهاء، وتجمعُ نفسها في أعمالٍ شعريةٍ ومسرحية وكتابات ونصوص محمّلةٍ برسائلِ الكون إلى ذاتها وذواتنا فيما كنا وفيما سنكون، قبل أن تقرر إخراج جزء متناغم من هذه الأعمال في صور ِمختارات شعرية تحت عنوان «في كل مكان من المنفى»، يعيدنا إلى رؤية جانب من عالم قصائدها بعين جديدة، في ما تصطلح الحملات الإعلانية على تسميته «الصورة الكبرى»، أو ما يسمّيه الشعر وهو الأحقّ: الباقة النبع/ المصب.
«في كل مكان من المنفى» قصائد مختارة، مقتطفة كباقة من عالم شاعرة فرض شعرها وجوده على خارطة الإبداع بالمجمل، وعلى دروب الأمكنة التي تحدّث عنها، وأصبح بذلك جزءاً منها، كشعر يمثّل نقاء عيشِ المكان، وعَكَس بهذه الباقة ربما جميع الأمكنة في عالمنا، حيث تتفتت الذات من قبل ذات الآخر، أو العكس، بقنابل التهجير، وسيوف الفصل المُشْهَرةِ وللأسف بكلمة «العنصري»، متدحرجة كما كرةِ جليد تجرف في النهاية مطْلِقيها الذين: «جاؤوا حين خرجتُ لشراء الخبز،/ غير مدركة أنني غادرتُ البيتَ/ دون أن أصحبَ نفسي معي» كذلك، على كرة شفافة، نقية، تعاني المرارة من أبنائها تحت نار مدافعهم، وتدور في ذات الوقت خالصةَ الجمال وراشحةً بندى التعاطف الإنساني الغامر. في مرآة هذه الشاعرة التي لم يزدها الفصل إلا تواصلاً إنسانياً لمحو الفصل من على كرتنا الأرضية الجميلة، في كل مكان من منافيها التي تنضح الأسى؛ كما «قال مأمون بعد مغادرته سوريا»، في القصيدة التي تحمل هذا العنوان: «حملتُ معي سبع مزهريات/ إلى سبعِ قرىً/ عبْر بحار سبعة/ لكي أقبّلَ امرأة بعينِها/ يمسحُ اللاجئون/ أعينهم المتعبة/ على سطح ا لمرآة/ يتْلُون بلدهم على أسماعي». وكما في القصيدة التي تسبقها: «مِن تَقوع إلى دمشق إلى ريو»، والتي تُثريها حنظل بتقديمٍ موحٍ وصادم من سيسيليا ميريليس: «عند الحدود كان ثمة حصان ميت»، كعادتها في الكثير من قصائدها التي تُثري بها معرفة القارئ، بأبيات وأقوال أغلبها لشعراء، بقدْر ما تُثري القصيدة بالتداخل مع عمل وروح الآخر.
في كل مكان من المنفى، تنثر الشاعرة حنظل بذور الحضور في المكان، الذي عصفت به رياح غريبة جائرة وقاسية في تبديل الملامح ومحو الذاكرة، وتُنبت أسماءه وأرواحه من خلال استخلاص أنساغ اللغة التي خبّأ بها تفاصيلَه، بقصيدة مسلّحة بجرأة فنية لا يخيفها ذكر اسم المكان وأسماء البشر الذين مرّوا به، وهي مدركة أنها تضع نفسها بهذا تحت سيف تعرية الشعر من أوراق وجوده. إذ هي تدرك كذلك وضْعها الأسماء في مجازات الصورة الشعرية الحية بفلسفة رفيعة تقي المكان والشعر الذي يحمله وتبقيهما أخضرين في رمال الاندثار، صافعة بهذه الجرأة أصحاب قصيدة التجريد التي تكرّس الأوهام بدلاً من نقلها إلى الأحلام، وتخفي الحيادَ المرذول الذي تسير به أشباح الشعر بلا دم ولا رائحة. فمدينة بيت لحم، حيفا، يافا، عكا، وغزة وحلب ودمشق ومدن الشام على سكة حديد فلسطين، وبقية مدن باقة المنفى، تتجسد بصورِ ومجازاتِ ورموزِ «شاعرية المكان»، إذ لا تأتي حلب على سبيل المثال الفاجع، مدينةً مفجّرة معصوفة محروقة تتجول بها مسوخ الغزاة والكتّاب المزوّرين والمراسلين الوقحين على الشاشات، كما حدث كصورة متلفزة فحسب، بل تأتي قبل أن يحدث ذلك، بمجازها الراجف:
«لا شيء يهم
سوى أن السهمَ
يكادُ يُصوَّبُ
إلى طائرٍ
في الظلام».
ومثل ذلك يجري في إنبات حنظل الأرواح من بذرها للحضور، في تداخلٍ زمني يستحضر حيوات المكان في البشر الذين مرّوا حضارات فيه، بإحياء الماضي، وتجاوزه إلى تجسيد روح الحاضر، كما يحدث مثالاً في القصيدة السالف ذكرها «خوان رولفو، الأشباح، العرب والبيت».
وتفعل فلسفة حنظل عن تداخل الأرواح في المكان بغموض أزمنة تحولاتها، فعلَها القوي بذلك، كما تفعل لغتُها البسيطة المركبة التي تُداخِل بها كلمات أوطان عاشتْها بكلمات وطن الجذور التي تشدّها، فعلَها في إنباض اللغة روحاً سارية، دفعتْ نقاداً وشعراء للإشارة إلى كون لغتها «تمتلك ثقة وبراعة جون كيتس»، وإلى «أنها تبتكر كلماتٍ لأشياء لم توجد بعد»، سواء في قصيدتها المشكلة بأسلوب السطر، أو قصيدة القطعة الطويلة ومتوسطة الطول، الجارية بأسلوب حكاية السرد الشعري بفعل زمن الحاضر أو الماضي، حيث يتألق تركيب الجملة الشعرية المتداخل، وتتموّج المجازات عاكسة عمق بحر القصيدة بغموض آسر.
ولا تعيض الإشارة إلى قصيدة «مؤدي الأغنية» القارئ هنا، عن الإحساس بسريان اللغة روحاً في مجمل قصائد حنظل، وبالأخص منها ما ارتبط بالمنفى، عن فردوس البشرية المفقود، في الباقة المقتطفة من مجموعة «شاعرة في الأندلس»، حيث تجري جداول الشعر الصافي الثريّ بتناغم بين الإيقاعات المموسقة والشعر المنثور كما تويجات أزهار المكان الذي يستوحي منه هذا الشعر طبيعته. بين الموشّح الأندلسي وشجن الطلل العربي، وبما يتبدّى واضحاً بالتفاعل مع أحجار وأزهار وكائنات المكان التي التقطتها عين الشاعرة النفّاذة، مثل التفاعل المدهش مع حصان بيكاسو المعصور بالألم في لوحة غورنيكا، وخارطة العظام التي خلّفتها فاشية فرانكو للأجيال التي تحفر باحثةً عن بقايا الجثث الممتنّة لهذا البحث، ومنها جثّة لوركا التي أصبحت أسطورة في اختفائها.
وتضيف لغة حنظل هنا النكهةَ الخاصة السّارية من خلالها لروح المكان، باستلهامها خيالات وإيقاعات وأرواح من أبقوا هذه الروح حيّة فيه، مثل لوركا وشعراء الإنسانية على امتداد تاريخ الأندلس، وتاريخ إسبانياً مروراً بعصر الباروك، وإبداعات نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وبالأخص مجموعة الـ 27 التي أثّرت مع شعراء حركات الدادائية والسوريالية ومازالت تؤثّر في موجات شعر الحداثة وما بعد الحداثة الذي يطبع قصائد حنظل كذلك، بتميز توشيحات كتابتها الآلية والحكاية المميزة لقصيدة نثرها، مع إشراقاتها المتصوفة المتفاعلة.
في كل مكان من المنفى، تُبلور حنظل باقتَها الشعرية الخاصة بشاعرية المكان، في بنية بسيطة، تتضمن مقدمة من المترجم أحمد م. أحمد، تليها سبعة فصول تضم 67 قصيدة، مقتطفة من ست مجموعات على التوالي: «حيوات المطر» 2005 ــ 6 قصائد؛ «الحب والأحصنة الغريبة» 2010 ــ 11 قصيدة؛ «شاعرة في الأندلس» 2012 ــ 10 قصائد؛ «النجم اللامرئي» 2014 ــ 12 قصيدة؛ «الجمهوريات» 2015 ــ 6 قصائد؛ «الحياة في ألبوم البلاد» 2019 ــ 13 قصيدة؛ وفصل ختامي تحت عنوان «قصائد أخرى» ــ 9 قصائد.
وفي كل مكان من المنفى، لا تتجلى مقاومة حنظل للغياب، التهجير، الفصل وكلّ ما يوقف الحياة عن السريان، بالشعر فحسب، وإنما كذلك بحضور الشعر المقاوم مباشرة على طريقتها التي تتقنها بحرفية، مثلما تفعل في القصيدة التي عنونتها «في عكا»، مع اختيار عنوان مختاراتها منها:
«أسجل
أني أراكِ في سنة 2014
وسوف أراكِ
كلّ يوم في كلّ حلم،
عكا،
أعتذر إذ لم أكتب في الحال
أعتذر إذ لم أغنّ
الأغنيات التي صاغها لنا البحر
والأبدية التي درّبَنا عليها
وحتى لو تضاعفت المقابر
تذكّري، كما القدس
أنه لو دُمّرت هذه المدينة
فسينهض ناجٍ
في كلّ منّا
في كلّ مكان من المنفى
ليكون المدينة».
ناتالي حنظل: «في كل مكان من المنفى»
ترجمة: أحمد م. أحمد
دار فواصل للنشر والتوزيع، اللاذقية 2021
175 صفحة.
“القدس العربي”