لم يغادر ميشيل كيلو ساحة الحرية ، ولا يستطيع أن يفعل ذلك . حتى وهو خلف القضبان ، تبقى الحرية رفيقه الدائم وسميره الذي لا يتعب من محاورته ومنادمته والجري وراءه إلى آخر العناء . فحياة الرجل ومسيرته سعي وراء الحرية . أفنى عمره حالماً بها أو مبشراً بآفاقها أو بانياً لفضائها أو مدافعاً عن تخومها . وحيثما كان ميدان عمله سياسياً أم اجتماعياً أو في مجال الفكر والثقافة ، تبقى الحرية مفتاحه المفضل ولعبته الأثيرة وكلمة السر التي تختصر نشاطه وحياته .
عرفته سورية واحداً من أبنائها البررة ، الذين نذروا أنفسهم لحمل هموم وطنهم السوري وقضايا أمتهم العربية . يخوض غمار العمل العام منشئاً ومشاركاً وناقداً بروح مبدعة وبحماس ودأب مشهودين ، هما من ميزاته الشخصية . وعلى مدى عقود من الزمن ، مثّل " أبو أيهم " – إلى جانب لفيف هام من المثقفين السوريين – تيار الثقافة الجادة في البلاد وروحها المتوثبة . ثقافة الحوار والنقد والعقلانية ، التي تنشد التنوير والحداثة والتغيير . وتعمل من أجل مجتمع الوفرة والعدل والحرية . ومعروف عن الرجل خروجه المبكر على ثقافة النقل والواحدية وعبادة الفرد ، ورفضه للنهج الشعبوي والشمولي ، ومقاومته لأساليب القمع والاستبداد والهيمنة . فجاء نصيبه من الاعتقال والسجن وتقييد الحرية وفيراً .
كانت أزمة الثمانينات وأحداثها الدامية مناسبة لبروز صوت ميشيل كيلو على المستوى الوطني كمثقف عضوي ، يحمل هموم مجتمعه ، ويعكس نبض الشارع في هذا المجتمع ، ولديه من الشجاعة ما يكفي للتعبير عن آماله وآلامه وطموحاته . وما زال صوته الواضح بنبرته الحادة في مسامع الآلاف من أبناء شعبنا عبر الشريط المسجل الذي انتشر ، وكان حصيلة حوار أقامته " الجبهة الوطنية التقدمية " عام 1980 مع المثقفين السوريين للبحث في تلك الأزمة وسبل مواجهتها . كان صوته إلى جانب أصوات ممدوح عدوان وعلي المصري من أبرز الأصوات التي صدمت السلطة بوضع الحقيقة العارية على الطاولة دون تزيين أوتزييف . ومازال الكثيرون يتذكرون الجملة التي لخص بها المأزق الوطني حينها بجرأة كبيرة وتكثيف شديد عندما خاطب وفد " الجبهة " المحاور قائلاً : " مشكلتكم ليست معنا ، بل مع الطريقة التي تدار بها الأمور في هذا البلد " .
دفع ميشيل كيلو ثمن موقفه الوطني والتاريخي ذاك في زنازين سجن المزة الشهير قبل إغلاقه . ولم تستطع سنوات السجن الطويلة ومعاناته المريرة أن تنال من عزيمة المثقف والسياسي والمناضل ، ولم تتمكن من إخراجه من ساحة الفعل والممارسة والنشاط في حقول عديدة من الشأن العام . وظل الفتى الساحلي يبحث عن الطرق المؤدية إلى سورية التي يريدها . كما عجزت كل أساليب الترغيب والترهيب ، التي قدمت له ومورست عليه أن تؤتي أكلها . فكان من أبرز رموز ربيع دمشق والفاعلين في نشاطاته المتعددة ، وتالياً في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي ومشروع ائتلافه الواسع .
ثلاث سنوات أخرى أمضاها ميشيل كيلو في سجن عدرا المركزي دفاعاً عن رؤيته وأفكاره وخياراته في الشؤون القومية والوطنية والاجتماعية ، ونتيجة لاستمرار الاستبداد واستمرار الرجل بمقارعته . وبغض النظر عن المحاكمة الصورية وقراراتها السياسية الجاهزة ، التي أبعدته عن أهله وزملائه وأصدقائه ، فمن المؤلم حقاً أن ترفع في وجه رجل مثله تهماً من نوع "وهن عزيمة الأمة " أو " نشر أنباء كاذبة " أو" إثارة المشاعر الطائفية " وهو الذي أمضى عمره منافحاً عن قضايا أمته ومصالح وطنه ووحدة شعبه . حتى أن عشب الأرض في سورية صار يعرف من هو ميشيل كيلو بالفعل . وهذا ما يعزي .
أبو أيهم العزيز ، حمداً لله على السلامة ، وأهلاً بك في الحرية من جديد .
20 / 5 / 2009
هيئة التحرير