ما إن بدأت الحرب الروسية الأوكرانية حتى بدأ إطلاق النكت العنصرية ضد النساء الأوكرانيات، ثمة خطاب ذكوري خفي يذكرنا دائما بأن الحروب امتياز للرجال فقط، لا تلعب فيه النساء أي دور غير دور الضحية. فهن مستبعدات عن قرار الحرب الذي يؤخذ ضد رغبتهن، كما أنهن لا يُهَيأن لمواجهة الوحشية الذكورية التي تنفجر دفعة واحدة خلال الحروب.
ثم منذ الأزل، لا شيء تغير إلى اليوم، تصبح المرأة غنيمة حرب بين ليلة وضحاها، وتنتعش تجارة الرقيق، وفق مواصفات نساء كل بلد. إذ يبدو أن استعباد المرأة أكثر سهولة من استعباد الرجل، الذي يقاتل من أجل حريته أكثر بسبب ثقته بقوته الجسدية، وقدراته المعنوية التي تغذيها الثقافات الاجتماعية في كل العالم.
فيما ينزل وابل القنابل والصواريخ على رؤوس الأوكرانيين، تصلك رسالة قمة في «البياخة» تخبرك أن ذكورنا سعداء باستقبال اللاجئات الأوكرانيات، ثم تصلك أخرى تقارن بين جمال الأوكرانيات القادمات إلينا في القريب العاجل، ونسائنا اللواتي رغم اجتهادهن لتبييض بشرتهن، إلا أنهن لا يبلغن نقاوة البشرة الأوكرانية المرحب بها. تطعنك النكت التي تبالغ في وصف نسائنا بالبشاعة، والخشونة، وقلة الأنوثة بطريقة تثير الاشمئزاز، ويصفعك بعض الذين يُحسبون على الثقافة والشعر والأدب والفن باستلطاف عبارة تذيل صورة لشابات أوكرانيات تنبهك، إلى أنه حان الوقت لتغيير زوجتك العربية طبعا، واستبدالها بـ»غنيمة» حرب من أوكرانيا! أما أسوأ ما سمعته على الإطلاق في بيروت فهو أن انقطاع الكهرباء لم يعد مهما لأن المصابيح الأوكرانية قادمة!
كيف رسخت هذه الثقافة في أدمغة شعوبنا؟ ولماذا رغم إلغاء الرق في كل أصقاع العالم يبقى استعباد النساء متجددا لأسباب عديدة؟
الأوكرانيات اللواتي وضعن في قوالب جندرية نمطية في بعض البلدان العربية، لسن الوحيدات، فالروسيات يتساوين معهن في هذا الأمر، وكل النساء القادمات إلينا من أوروبا الشرقية، وهن لا يختلفن عن نساء عربيات من جنسيات مختلفة، التصقت بهن صفات مهينة، وكلهن ضحايا لأنظمة بلدانهن وحروب وضعتهن أمام خيارات صعبة مرغمات.
يرتبط وضع النساء الكارثي في الحروب إلى ميلهن السلمي، وهذا ما جعلهن حتى في أي خطاب سياسي أو سردي أو قصصي شعبي، لا يخرج عن وصفهن بالفرائس والغنائم والضحايا المعتدى عليهن. من النادر أن نصادف شخصية نسائية داعية للحرب، كون المرأة مهد الحياة وحاضنة لها، وهي أكثر إدراكا لأهوال الحرب، وما يتبعها من نتائج، حتى المجندات داخل الجيوش النظامية وغير النظامية، لديهن وظائف في الصفوف الخلفية، مثل التمريض، والإدارة، أو الحراسة. وقد تباهت جماعات متطرفة بحشد نساء تورطن بشكل مباشر في مهمات الترفيه الجنسي عن المقاتلين، وهذا يؤكد حصر المرأة في استغلالها جسديا، ومنعها من أي مشاركة قتالية قد تضعها في خط مساواة مع المقاتلين الرجال. رسميا خوض الحرب من طرف النساء ليس ممنوعا، لكن احتكار السلاح مهمة رجالية، لذا من النادر أن نجد شخصيات تاريخية محاربة من الجنس اللطيف. وربما نتقبل أسطورة النساء الأمازونيات المقاتلات بصدر رحب، وما روي عن الملكة المصرية «أياح حتب» الأولى من بطولات، أو ملكة تدمر زنوبيا، في قيادة الجيوش، لكن الوعي العام يرفض حكايات مماثلة عن بطلات في قيادات جيوش معاصرة، فالأولى وإن كان يتم إدراجها تحت باب الأسطورة أو الخرافة، حتى إن كانت واقعة تاريخية، والثانية مرفوض حتى إدراجها تحت هذا الباب.
قبل الحرب كنا نعتقد أن هذا البلد مصنع للحسناوات لا غير، بعد يوم واحد من الحرب، اتضح أنها جزء مهم من توازن هذا العالم، وأن لا شيء سيبقى على حاله بعد هذه الحرب.
هل هذا تقليل من شأن المرأة؟ وفق مقولة سيمون دي بوفوار «المرأة تولد إنسانا ثم تُصنَع امرأة». فهي منذ ولادتها توجه لتكون ما هي عليه من ضعف وخوف ورقة، وفي تجارب كثيرة أثبتت التربية العائلية والأكاديمية المختلفة، أن المرأة قد تكون ما تريد، حتى إنها قد تكون مقاتلة شرسة، وقد تتورط في جرائم قتل وتعذيب مثلما حدث في سجن أبو غريب الشهير في العراق منذ سنوات. كما أن وجود انتحاريات في تنظيمات متطرفة، يبدو مناقضا لطبيعة الإناث المتفق عليها، أما أبشع الجرائم في منظوري الخاص فهي جرائم الاغتصاب، التي مارستها نساء مسلحات ضد مدنيات في حرب سيراليون. هذه الاستثناءات يمكن اعتبارها عدوانية ضمن النشاط البشري العادي في ظروف الحرب، أو غيرها من الظروف القاسية، لكن لا يمكن تعميمها. المرأة في النهاية تدفع ثمن التهور الذكوري، واحتكاره حمل السلاح، ولكي تدافع عن نفسها ستضطر لتغيير سلوكها المسالم، وهذا ما أدركته النساء الأوكرانيات اللواتي، حسب الأخبار الواردة إلينا من قلب أوكرانيا، فإنهن تطوعن لحمل السلاح في ظاهرة يشهدها البلد أول مرة.
تهب رياح التغيير على المرأة الأوكرانية بمنحها دورا قتاليا، وهذا أمر ليس بالمؤقت، إذ من العادة أن تغير الظروف دائما في المفاهيم والأفكار والثقافات. وقد سُجلت تغييرات مهمة بفضل تشريع 2018 الذي منح حقوقا للمرأة حتى في قلب القوات المسلحة. أما التغييرات الأكبر فتحدثها الحرب دون أدنى شك. في سوابق لم أكن لأعرفها لولا زيارتي الأخيرة لبيروت، فإن عددا كبيرا من اللاجئات السوريات يمارسن مهنة تنظيف البيوت، بعد أن غادرت العاملات المُسْتقدمات من الفليبين وسريلانكا ودول افريقية أخرى لبنان. وهذا كان من المستحيلات قبل الحرب السورية. ودون الدخول في هذه التفاصيل التي تثير حساسيات البعض رفضا للحقيقة، نُطمئِن ذكورنا بأن ظروف العالم العربي لم تعد مغرية للأوكرانيات (لأكل العيش) عندنا. وظروف اللاجئين أيضا بعد أن أدرك «الذكر العربي» أن الحرب التي منحته بطولات سابقة، لن تمنحه سوى الخسارات في حروب اليوم.
لقد تشكلت ثقافتنا من معطيات قديمة جدا بشأن المرأة، وحرمتنا من معرفة تاريخ الشعوب الحقيقي ومعاناة الإنسانية بسبب الحروب، بل إننا أصبحنا انتقائيين جدا في ما نقرأ، ونسمح ونشاهد ونروي. فعلى سبيل المثال لا الحصر لأول مرة أقرأ عن الفوج النسائي الملقب بـ»ساحرات الليل» الذي أرعب الألمان والمتكون من قائدات طائرات، على أيام الاتحاد السوفييتي، وكانت أهمهن ناديا بوبوفا الأوكرانية، التي أصبحت قائدة طائرة في سن الثامنة عشرة، ونجت من آلاف المهمات. عندما توفيت عن عمر يناهز الواحدة والتسعين عام 2013 كان رئيس أوكرانيا هو من أصدر الإعلان.
وحدها الحرب تجرد الإنسان من كرامته، وتعلمه أقسى درس في الذل. أما غير ذلك فيمكن تخطيه. أما المرض الذي لا يمكننا أن نشفى منه فهو أن نرى معاناة الآخر كترفٍ مقارنة مع معاناتنا. وأن نبرر عنصريتنا مقارنة مع عنصرية الآخرين ضدنا. ورغم كل ما أصابنا جراء هذه الحروب، نقف مبررين عنف حروبٍ عن أخرى، متناسين أن الحرب واحدة، لا منتصر فيها ولا بطل.
قبل هذه الحرب قرأنا أدبا روسيا كثيرا، وبعدها بدأنا نقرأ عن الأدب الأوكراني، حتى أن كاتبة أوكرانية ماتت تحت القصف بثيابها العسكرية، بعد أن قررت أن تبقى في مدينتها وتدافع عنها، ونعاها كتاب أوكرانيون بألم.
قبل الحرب كنا نعتقد أن هذا البلد مصنع للحسناوات لا غير، بعد يوم واحد من الحرب، اتضح أنها جزء مهم من توازن هذا العالم، وأن لا شيء سيبقى على حاله بعد هذه الحرب. وقد تذكرت مقولة للكاتب أمين معلوف، وردت في كتابه «غرق الحضارات» يقول فيها تقريبا إن الابتهاج بتدمير جزء بسيط من العالم له عواقب وخيمة، لأنه كتلة مترابطة ببعضها بعضا، وأي شق في جدارها سيهددها بأكملها بالتصدع.
إذن أيها الحالم بقدوم الأوكرانيات هربا من الحرب إليك، حاول أن توفر خبز كفاف يومك أولا، ثم حافظ على امرأتك ثانيا، فالحرب قدرٌ أسود، والأيام، يوم لك ويوم عليك.
شاعرة وإعلامية من البحرين
“القدس العربي”