تطوّرَ مفهوم الثقافة كأحد مكونات السلوك الإنساني، فكان مبحثاً أساسياً لعلوم الفلسفة، والأنثوبولوجيا، وأصبحت خصائص الثقافة ومكوّناتها موضع اهتمام كبير من قبل الفلاسفة والباحثين، وأكثر الخصائص وضوحاً تلك التي ترتبط بموضوع الثقافة وعلاقتها بالمجتمع، وسلوك أفراده، وطريقة تفكيرهم، ولعل من بين الفلسفات الحديثة التي اهتمت بهذا الجانب، هي ما يعرف بالبراغماتية
pragmatism وبروادها وفلاسفتها الأوائل، بدءاً من وليام جيمس (1842-1910) أبرز دعاتها في الولايات المتحدة، لغاية جون ديوي (1859-1952) الذي يعدّ رائداً في تطوير الفلسفة التجريبية العقلانية، التي أصبحت مرتبطة بالبراغماتية في ما بعد. وهو أبرز ممثليها.
البراغماتية اسم مشتق من اليونانية، ومعناه العمل، ويترجم إلى العربية بمصطلح الذرائعية، إلا أن الترجمة لا تعطي فكرة شاملة عنه، ولا تعكس جوهر الكلمة الحقيقي. فملخص الذرائعية أن المعرفة أداة للعمل ووسيلة للتجربة. ويفهمها البعض ببساطة أنها تعني (المنفعة فقط) وشاع هذا الفهم بين فئات مختلفة في المجتمع، وتبنّاه للأسف الشديد بعض الدارسين، إنها على العكس من ذلك، لكونها على الضد من التجريد، ولها دلالاتها الخاصة كرافد من روافد الفكر والمعرفة، إنها ليست على تقاطع مع العالم المتغير المتحول الخالي من الثبات والمطلق، وبذلك فإن البراغماتية تدعم فكرة التطبيق العملي كضرورة أساسية، ملازمة للنظرية والمفاهيم. وهي تتخذ من المشاكل حافزاً للوصول إلى الحقيقة، وتتبنى فكرة أهمية القوى الإنسانية، وتطوير القيم الاجتماعية والديمقراطية، وتولي أهمية فائقة للتربية والتعليم القائم على الفعل الإنساني، فضلاً عن إيمانها بالتعددية، وتعارض العادات والتقاليد الاجتماعية.
لا تشكل الدراسات في البراغماتية حضوراً جوهرياً في الأدب العربي، أو في أفكارنا وممارساتنا، وعلى شحّتها فهي خاضعة للجدل والحوار، وقد أفاض عبد الرزاق الغالبي في الحديث عن منهجه في كتابه «الذرائعية اللغوية بين المفهوم اللساني والنقدي» الصادر عام 2017، وفيه يوضح الكاتب الفرق بين تيار جون ديوي والذرائعية اللغوية، كتيار لساني ظهر لأول مرة في السبعينيات، ويذهب الكاتب إلى أن الذرائعية هي التداولية، وأن الاثنين هما موضوع لغوي بلاغي واحد عربي الأصل، اكتشفه الغرب أخيراً تحت اسم البراغماتية.
هل يصح وفق هذه المعطيات، أن نتوصل إلى صياغة مقاربة بين الثقافة والبراغماتية، والبحث عن العناصر التي تتفاعل في كيان ثقافتنا المعاصرة؟ هذا السؤال يدعونا للوقوف عند أعراض الأزمة في فكرنا وأدبنا، وتلمس الحد الذي أصبحت فيه الفلسفة كبش فداء في هذه الأزمة، فشيوع الشك في قيمها، وعدم الاطمئنان إلى تاريخها، وفساد المناهج في دراستها، ومساواتها بالتصوف وأسلوب الدراويش من جهة، وباللامعقول والخرافة من جهة أخرى، قد تولّد نتيجة الزعزعة العامة للأسس والقواعد، التي كان ينبغي أن تنشأ عليها أسس التفكير العلمي. وقد اكتظت عقولنا ونفوسنا ومداركنا بما لا نعلم مقداره من الخرافة والزيف، بل لا شك في حاجتنا إلى استنهاض العقول، وتربية الإفهام. الكاتب والمتلقي كلاهما مزوّد بأنواع الأسلحة نفسها في بيداء الشطط والادعاء، والحركة في عالم الزيف والخداع، تقابلها دعوة أكبر في عالم التطرف والعصبية.
البعض من المثقفين أنتج ممارسته الفكرية بما يجافي دوره المفترض، وتخلى عن دوره التنويري، والإبداع والنقد، وانصرف إلى ممارسة وظيفة التبرير، والتسويغ والشرعنة، تبرير الآراء بما يخدم المؤسسة السياسية، وتسويق موقفها، والمفهوم من هنا، أنهم وضعوا (الحقيقة) رهن إشارة المنفعة.
ويحق لنا السؤال، هل صحيح أن عقلنا من النوع الذي لا يستطيع أن يرمق العلم من غير كلف، إلا بما يؤديه لنا في الواقع من نتائج مفيدة محسوس، إن النظر إلى الثقافة على أنها قيم ومعايير ومعتقدات، ورموز وأيديولوجيات، يعزز ما يذهب إليه البعض، من أنها ترتبط بنمط الحياة الكلي لمجتمع ما، وفي هذين الاتجاهين، ليس من السهل حصرها في بلد ما أو شخصية معينة، أو قومية، أو فئة بذاتها، إن أفضل النظريات وأعمقها وأكثر الأفكار والرؤى صدقاً هي، التي تقول وتنجز وتحقق وتمارس فعلها الحي، وإلا كانت مجرد كلمات خيالية لا تشبه شيئاً من معطيات الحياة، إن كل الثقافات تقوم بوظيفة إشباع حاجات عضوية ونفسية عالية للأفراد، فالثقافة هي وسيلة لغاية، أي بالمعنى الوظيفي، وفي الواقع الملموس هي عنصر عافية ووعي استخدام الحاجات حسب تعريف مالينوفسكي، والبعض يرى ان للمثقف وظيفة اجتماعية، وبمقتضى هذا الافتراض، لا تكون مهمة المثقف فكرية أو معرفية حسب، إنما اجتماعية: الانشغال بالقضايا العامة، والمشاركة فيها في الرأي والموقف، وصورة المثقف لا تكتمل ما لم يستكمل وظيفته المعرفية التي تخرجه من فرديته إلى كينونة أعلى. ويقودنا الكلام في هذا الشأن إلى فكرة المثقف الملتزم وتطورها في الوعي الثقافي، على اختلاف بين محطاتها التاريخية وطبعاتها المتنوعة، والنظر إلى المثقفين، أنهم رسل اجتماعيون ينتدبهم التاريخ لمهمات تغيير في المجتمع، وبقدر ما كانت فكرة الالتزام باهظة الثمن على الدور المعرفي والفكري للمثقف والأديب، فقد هبطت بهما إلى مجرد ناشطين حركيين، أو إلى داعيين.
البعض من المثقفين أنتج ممارسته الفكرية بما يجافي دوره المفترض، وتخلى عن دوره التنويري، والإبداع والنقد، وانصرف إلى ممارسة وظيفة التبرير، والتسويغ والشرعنة، تبرير الآراء بما يخدم المؤسسة السياسية، وتسويق موقفها، والمفهوم من هنا، أنهم وضعوا (الحقيقة) رهن إشارة المنفعة.
يصدق على الثقافة التي ينتجها أولئك المثقفون، وصف ثقافة التبرير، الثقافة التي لا يكون وازعها المعرفة، بل خدمة المصالح غير المعرفية، وهي ثقافة تقع خارج مطالب المعرفة: ثقافة المؤسسة، يجري تصميمها سلفاً، أي لا تتحرك وفق نظام آلية إنتاج الأفكار، بوصفها آلية تخضع لمنطق موضوعي، بل تعد على مقاس حاجة المؤسسة، وهي لذلك السبب وبمعيار معرفي صرف، ثقافة آيديولوجية، وأخلاقيتها أخلاق ذرائعية نفعية. ونجم عن ذلك تحول مناخ العلاقات الثقافية إلى مناخ ملبّد بعناصر التأزم، وانصرفت الثقافة عن مهماتها المعرفية، إلى أجواء الاشتباكات الأيديولوجية. وأولى علاماتها هي الإرهاب الفكري. ومن مشاهده المرعبة، مقالات التخوين، وفتاوى التكفير، والعزل، والإقصاء، والتحريض، لا وجود متسع للحوار والإصغاء، ولا حرية للرأي والتفكير.
وأياً يكن من أمر النزعات البراغماتية، وما تحمله في طياتها من احتمالات، فإن خطاباً ثقافياً آخر مغايراً ينظر بإيجابية لمعطيات التطور التقني الجديد، يتعامل معها بقدر أكبر من الواقعية، والوعي بالشروط الحقيقية للاستجابة لتطورات العصر، لا في سماء التجريد النظري، بل على أرض الواقع، وفي ظل هشاشة الوضع الثقافي العربي.
الخطاب المغاير في الثقافة لا يكف عن التطلع إلى المستقبل الذي يقيس على إمكاناته الواعدة واحتمالاته الموجبة، خطاب لا يعرف سوى المكاشفة، والانحياز إلى العقل والعلم ونبذ الخرافة، يعترف بالمختلف والمغاير، بل بالمعارض، بوصفه الوضع الطبيعي للحضور الفاعل في الحياة، وفي قلب الحركة المتدافعة لعصره الصاعد.
كاتب عراقي
“القدس العربي”