كما في شهر آذار/مارس من كل عام، تمت استعادة ذكرى ثورة 2011 بوسائل مختلفة، مظاهرات في سوريا وخارجها وكتابات وأنشطة ثقافية أخرى، برز منها هذا العام بيان أصدرته مجموعة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، حملت شيئاً من الإنصاف اللفظي لتلك الثورة المغدورة وضحايا بطش النظام الأسدي، وربما أحيت بعض الآمال الواهنة باحتمال استعادة القضية السورية لشيء من الاهتمام الدولي، بمناسبة الحرب الروسية على أوكرانيا وفي إطار الحملة الغربية غير المسبوقة في تضييق الخناق على بوتين.
وربما “بالمناسبة نفسها” استقبل بعض أركان الحكم في الإمارات العربية المتحدة الرئيس السوري في زيارة هي الأولى له إلى دولة عربية، بعد أحد عشر عاماً من العزلة العربية المفروضة عليه. وقد تكون تداعيات الحرب الروسية، هنا أيضاً، أحد العوامل التي لعبت دوراً مهماً في حدوث هذه الزيارة، وبالتحديد في إطار الاصطفافات التي فرضتها تلك الحرب بين روسيا وخصومها الغربيين.
في حين أن القمة الثلاثية التي عقدت قبل يومين في شرم الشيخ بين السيسي وبينيت وبن زايد تبقى مداراً للتكهنات، وإن كان الدافع هو نفسه، الاستقطاب الدولي الحاد بين روسيا والغرب، ويضاف هنا دافع آخر لا يقل أهمية هو تلهف الأمريكيين للانتهاء من مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني بتجديد اتفاق 5+1، وما يثيره ذلك من مخاوف لدى الدول الثلاث، وبخاصة إسرائيل والإمارات. هل حضر بشار الأسد على طاولة مباحثات شرم الشيخ من خلال مضيفه في أبو ظبي، قبل يومين، محمد بن زايد أم لا؟ هذا ما لا نعرفه حالياً، ولكن يمكن افتراضه بالنظر إلى امكان اعتباره ممثلاً للروس والإيرانيين معاً، وحضوره الافتراضي قد يهم بينيت بالتحديد بالنظر إلى أن الأهداف العسكرية الإيرانية التي تضربها إسرائيل بشكل دوري إنما هي في مناطق سيطرة الأسد من سوريا، ولا يعرف مدى التأثير المحتمل للحرب في أوكرانيا على حرية حركة الطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية.
من المؤشرات الواهنة أيضاً إلى استعادة القضية السورية لبعض الاهتمام الدولي، حضور ممثل عن الخارجية الأمريكية لجلسات “اللجنة الدستورية” المنعقدة في جنيف في دورة جديدة، للمرة الأولى في سلسلة اجتماعات اللجنة المذكورة التي شكلتها روسيا قبل سنوات للالتفاف على قرارات مجلس الأمن بشأن سوريا. هنا أيضاً نلاحظ أن هذا الاهتمام الأمريكي الطارئ يأتي في إطار جهودها للتضييق على روسيا، فإذا نفع هذا الحضور الأمريكي في شيء فسيكون من الفوائد الجانبية للصراع في أوكرانيا.
عاد الاهتمام الأمريكي بسوريا من زاوية عدم ترك الساحة السورية لروسيا بعدما تفردت بها منذ العام 2015 بموافقة واشنطن
ويمكن إدراج التغيير الإيجابي المفاجئ في خطاب “مجلس سوريا الديمقراطية” بشأن الثورة السورية، ورفع أعلامها في المظاهرات الشعبية في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” المتمتعة بالحماية الأمريكية، في ذكرى ثورة آذار/مارس 2011، في الإطار نفسه مما يمكن وصفه بـ”عودة أمريكية إلى سوريا” بتحفظ شديد. ومرد التحفظ هو وضوح الموقف الأمريكي في دعم خطة المبعوث الدولي إلى سوريا غير بيدرسون المعروفة باسم “خطوة مقابل خطوة”، وقد أعلنته في البيان الصادر عن اجتماع “مجموعة أصدقاء سوريا” الأخير في واشنطن قبل أسابيع، وأعلنت فيه أيضاً دعمها لعمل اللجنة الدستورية.
عموماً أدت حرب بوتين على أوكرانيا إلى استنفار في الغرب يذكر بسوابق قريبة تلت انتهاء الحرب الباردة، كما حدث بعد الاحتلال العراقي للكويت في 1991، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن. وإذا كانت المناسبتان المذكورتان قد أدتا إلى شن حروب غير متكافئة من قبل القوة العظمى الوحيدة على خصوم أضعف بكثير وبعيدين عن حدودها، العراق وأفغانستان والعراق مرة أخرى، فالاستنفار الحالي يبدو دفاعياً بالمعنى العسكري ولا يتوقع تحوله إلى حرب أمريكية – أطلسية ضد روسيا، ما لم تبادر الأخيرة بقيادة بوتين إلى توسيع حربها لتشمل بلداناً أخرى أعضاء في الحلف الأطلسي، وهذا مستبعد أيضاً بالنظر إلى الخسائر الكبيرة الي تكبدتها روسيا في حربها على أوكرانيا إلى الآن وتعثرها في التقدم الميداني، وبالنظر إلى الخسائر غير العسكرية، لكنها باهظة، أمام الغرب.
الأثر المباشر لهذه التطورات على القضية السورية يتعلق بتبعية نظام الأسد لروسيا، وقد عبر رأس النظام، بطريقة زاود فيها على بوتين نفسه، عن انحيازه المطلق لحرب معلّمه، وضد الغرب، بصرف النظر عن انعدام وزنه في أي حسابات دولية. وباستثناء تجنيده لمرتزقة سوريين للقتال في أوكرانيا لمصلحة الجيش الروسي لا شيء يمكن أن يضيفه إلى روسيا. بالمقابل عاد الاهتمام الأمريكي بسوريا من زاوية عدم ترك الساحة السورية لروسيا بعدما تفردت بها منذ العام 2015 بموافقة واشنطن. فإضافة إلى المشاركة الأمريكية المشار إليها فوق في مباحثات اللجنة الدستورية، من المحتمل أن القوات الأمريكية الموجودة بأعداد رمزية في الشمال الشرقي ستبقى إلى أمد غير منظور، بعدما كان انسحابها المحتمل يطرح في كل مناسبة، ولا يستبعد زيادة عديدها وتسليحها على وقع تطورات الصراع المستمر في أوكرانيا وعليها.
المتدخلون الإقليميون في الصراع السوري، يعيدون حساباتهم أيضاً في ظل الحرب في أوكرانيا، تركيا وإسرائيل والإمارات وغيرها، فلم يعد تدخل هذه الدول في سوريا محصور الأثر في الخريطة السورية ومحيطها القريب، بل من شأنه أن يحدد انحياز كل دولة من هذه الدول إلى المحور الروسي أو المحور الغربي، وما يترتب على هذه الانحيازات من موقع كل منها في نظام دولي جديد يخلف نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت ملامحه ترتسم منذ الآن.
٭ كاتب سوري
“القدس العربي”