من المعلوم أن استراتيجية الوصول للمياه الدافئة، هي أحد أهم الركائز التي قامت عليها السياسة الروسية في العصر الحديث، وحتى وقتنا الحاضر.. فقد كان لشعورها بالعزلة والاحتباس القاري أثره على ذلك الهاجس التاريخي الذي طالما راودها، دافعًا إياها دفعًا في كل الاتجاهات للبحث المحموم عن نقاط الارتكاز البحري أو الوصل لشواطئ أو مرافئ أو حتى مياه يمكن أن تقودها إلى البحار المفتوحة في اتصال مباشر مع العالم الخارجي.. بالطبع إذا وضعنا في الاعتبار أن هذا الهاجس قد تطور بتطور متطلبات كل حقبة زمنية، لكنه مع ذلك استمر بشكل أو بآخر، وصار على مر الزمن من محددات السياسة الروسية.
ليس من قبيل الدهشة أن يكون بحر البنطس، أو البحر الأسود كما سُمي حديثًا، محل صراع إقليمي في عالمنا المعاصر.. فضفافه تشهد على تاريخه المليء بالنزاعات والحروب بين قوى عظمى؛ بل مثلت النزاعات على سواحله ومدنه وموانئه ومصبات أنهاره وجزره، مولدًا لإمبراطوريات كبرى اتخذت مراكزه منطلقًا لبسط سيادتها على قارات العالم القديم، وفي المقابل قضت نفس تلك النزاعات على إمبراطوريات أخرى، وكأن عبور حوضه وقطع مياهه يغير الموازين بين القوى ويحددها. ومنذ أن وُلدت روسيا الحديثة، لم يكن هذا البحر بالنسبة لها مجرد مسطح مائي يتخلل اليابسة القارية بين آسيا وأوروبا، بل كنز استراتيجي لمن استطاع إليه سبيلاً، خاصة لدولة تكاد تكون حبيسة القارة مع امتدادها الشاسع الذي لا يكاد يضاهيها فيه كيان سياسي آخر على وجه البسيطة؛ في وقت لم يكن فيه بحر الشمال المتجمد معظمه على امتدادها الشمالي يمكن أن يُخرجها من تلك العزلة القارية، أو يكون لها حلقة وصل مع عالم يتمحور بين قارات ثلاث. وهو ما جعل مجرد ملامسة البحر الأسود حُلمًا يكون لتحقيقه ما بعده، فما بالنا بالسيطرة على مراكزه الحيوية التي تشهد اليوم ملمحًا من تلك الصراعات التاريخية. وكما كان هذا البحر يمثل لروسيا المنطلق نحو أوروبا والغرب والعالم، والمعبر إلى المياه الدافئة، مَثَّل كذلك أشبه ما يكون بالمنطقة العازلة التي قد تُستخدم في بعض الأحيان كساحة لصراعها مع أقطاب عالمية أخرى بعيدًا عن عُمق أراضيها؛ تدلنا على ذلك حروبها الكبرى مع تلك الأقطاب على شواطئه وصفحة مياهه، كحرب القِرم (1853-1856م)، التي مثلت أحد أهم الحروب الأوروبية العامة في العصر الحديث.
إن المتتبع لرحلة الروس من مجرد دوقية في موسكو ومحيطها، ثم ارتقائهم لتكوين دولة بالمفهوم الحديث، سيجد أن هذه البحار الثلاثة قد شكلت ركنًا ركينًا ومشهدًا لا يغيب في خضم رحلتهم الطويلة
هكذا تطلعت روسيا وسعت سعيًا حثيثًا منذ نشأتها الحديثة، بكافة الوسائل الدبلوماسية والسياسية والعسكرية الممكنة، فضلاً عن المناورة والحيلة والخداع، لحيازة أولاً موضع قدم على ذلك البحر، ثم مواصلة التقدم والسيطرة على أكبر قدر من محيطه، وذلك طوال قرون العصر الحديث. لكن ظهرت تلك العوائق العظيمة التي شكلت حاجزًا منيعًا بينها وبين شواطئه مع انطلاقتها الأولى أواخر القرن الخامس عشر؛ تمثلت أكبرها وأهمها في دولة العثمانيين الفتية، التي كانت قد بسطت سيطرتها في ذلك الوقت على المعابر من وإلى ذلك البحر بعد فتحها للقسطنطينية عام 1453م، ثم القرم على ساحله الشمالي في سبعينيات ذلك القرن، حيث انضوت في ظل تبعيتهم خانية تتار القرم المسلمة، ليتخذوها منطلقًا بعد ذلك للسيطرة على جميع شواطئه، وتطهير بقاعه من مستعمرات دول المدن الإيطالية، وعلى رأسها جنوة، التي كان لها شأن كبير مع تجارته منذ العصور الوسطى قبل قدوم العثمانيين، ليتحول في غضون سنوات قلائل إلى بحيرة عثمانية شبه مغلقة، يتحكم العثمانيون في مفاصلها الرئيسية، ومراكزها الحيوية، ومواردها الاستراتيجية، وطرقها التجارية، وخيراتها الاقتصادية.
مع ذلك، ورغم أن الحُلم كان بعيد المنال، إلا أنها شرعت على الفور في أولى خطوات تحقيقه، ليس هذا فحسب بل إنها تطلعت في خضم ذلك إلى بحر آخر وإن لم يكن بالنسبة لها على نفس القدر، إلا أنه كان سيحقق الكثير من تطلعاتها المرجوة، كان هذا هو بحر البلطيق غربي أراضيها، والذي كان من شأنه أن يفتح لها شمالي أوروبا على مصراعيه، ليس هذا فحسب بل كان سيفتح الطريق – ولو من بعيد – إلى قلب العالم القديم، حيث البحر المتوسط وشواطئه وجزره بالغة الحيوية في ذلك الزمان، وحيث “الليفانت” أو “شرق المتوسط” معبر التجارة الرئيسي بين الشرق والغرب، هذا غير إمكانية اتصالها بمن تعتبرهم رعاياها من السلاف وأتباع الكنيسة الشرقية بشكل مباشر عن طريق البحر .. وإذا قُدر لنا أن نرى، سنرى كيف لعب بحر البلطيق بالفعل هذا الدور، وكيف وصل عن طريقه الأسطول الروسي إلى البحر المتوسط، ليقلب هناك الموازين رأسًا على عقب، إبان القرن الثامن عشر. هكذا لم تدخر وسعًا للوصول إليه بل وإقامة عاصمتها الجديدة (سان بطرسبرغ) عليه مستهل القرن الثامن عشر، والدخول في حروب شمالية عظمى مع الدول الأوروبية المسيطرة عليه، كان لها شأن كبير في الدفع بها نحو مصاف الدول العظمى في القارة.
أما البحر الثالث فكان بحرًا مغلقًا يقع ناحية الجنوب من أراضيها، لكنه اكتسب أهمية كبرى بموقعه الحيوي الفريد، هو بحر قزوين أو بحر الخزر؛ فكونه مصبًا لأنهار كبيرة على رأسها الفولجا، وقربه من البحر الأسود، ووقوعه على طريق الحرير القديم وكذلك طرق التجارة الحديثة بين آسيا وأوروبا، وما حازته منطقة القوقاز المشرف عليها من أهمية على أصعدة شتى، كل ذلك مَثَّل عوامل جذب جعلت منه مطمعًا للإمبراطوريات الآسيوية على مر الزمان، وكذلك كان الوصول إليه من الأهداف الروسية المبكرة، لكنهم اصطدموا في خضم رحلتهم أولاً بالتتار المسيطرين على وادي الفولغا الواصل إليه وعلى أستراخان الواقعة في شماله، وبعد تخلصهم من تتار أستراخان أواسط القرن السادس عشر، اصطدموا بتتار القرم الذين اعتبروا أنفسهم وارثين لكافة أراضي تتار القبيلة الذهبية المنهارة، ومن ورائهم العثمانيين الذين تدخلوا في المنطقة لحماية مصالحهم من جهة الشرق، ثم قوة فارس من الجنوب؛ لتقوم بين هذه القوى حروب وتحالفات وعداوات على مدى قرون من أجل اكتساب أو المحافظة على مناطق نفوذها عليه.
وهكذا، فإن المتتبع لرحلة الروس من مجرد دوقية في موسكو ومحيطها، ثم ارتقائهم لتكوين دولة بالمفهوم الحديث، وعملهم على وحدة الروس أو السلاف من الناحية القومية والدينية، وبداية توسعهم وانطلاقهم، ومن ثم دخولهم في صراعات وتحالفات مع الدول العظمى منذ فجر التاريخ الحديث، سيجد أن هذه البحار الثلاثة قد شكلت ركنًا ركينًا ومشهدًا لا يغيب في خضم رحلتهم الطويلة.. فكيف لها أن تغيب في وقتنا الحاضر؟
٭ كاتب وباحث مصري
“القدس العربي”