نحن على أبواب إسرائيل أخرى؛ مملكة يهودا والسامرة، التي سيحكمها ما يشبه «السنهادرين» وكهنته، وقادة عسكريون يؤمنون بأنّ هذه الأرض مخصصة لليهود، كعرق نبيل، وقد اختارهم الرب ليبنوا له الهيكل العظيم في أقدس بقع المعمورة، وليقدّموا له ذبائحهم. لن يكون في هذه المملكة مكان للآخرين ولا لأحزابهم التي أنهكتها الأيام وحوّلت برامجها إلى مراثٍ لم تعد تنفع في هذا الزمن الرصاصي، لأنّ «توراة الملك» صارت هي أول الكلام وآخره.
فمنذ اليوم الأول لولادة حكومة بينيت – لبيد كان واضحا أنها ستعيش في حقل مزروع بالألغام السياسية، وأنها إذا نجت مرّة أو أكثر، فإنها حتما ستصطدم بلغم «قاتل» سيوقف انفجارُه مسيرتَها وسيؤدّي إلى نهاية «عمرها» من دون أن يصل يئير لبيد إلى كرسي رئاسة الحكومة؛ وهذا، على ما يبدو، ما سيفضي إليه قرار عضو الكنيست عيديت سيلمان، التي انسحبت من الإئتلاف وتركت زميليها في حزب «يميناه» نفتالي بينيت وأييلت شاكيد، داخل حكومة لا تحظى بأغلبية برلمانية.
وعلى الرغم من أن العمل السياسي يتطلب أحيانا، في سبيل تشكيل الحكومات في الدول البرلمانية وبينها إسرائيل «السير على الماء» وإجادة فن البهلوانيات الحزبية، حتى الغريبة منها وغير المتوقعة، إلا أن ما حصل بعد الانتخابات العامة الأخيرة فاق كل التوقعات، وتخطّى حدود الخيال السياسي. إنه مشهد مخاتل؛ فالتوافق بين حزب «يميناه» المعروف بعنصريته المتطرفة، مع أحزاب الوسط الصهيونية واليمين الصهيوني العلماني المدعوم من حركة إسلامية، وابتعاده عن حلفائه «الطبيعيين» من الأحزاب الصهيونية القومية المتدينة العنصرية المتطرفة، كان عبارة عن مغامرة سياسية انتهازية خاضها بينيت وحزبه ضد «الطبيعة» وبعكس جميع المعطيات الاجتماعية والسياسية الحقيقية التي أنجبتهم وأوصلت معهم إلى الكنيست جيشا كبيرا من غلاة المتطرفين العنصريين اليمينيين، الذي يناهز عددهم الثمانين نائبا «ونائبة».
ليس من الحكمة أن نتكهن ماذا سيحصل خلال الشهر المقبل، وكيف سيتصرف البرلمان الإسرائيلي حال عودته من الإجازة التي ستنتهي في الثامن من مايو المقبل؟ فهناك ثلاثة احتمالات واردة: فإمّا التصويت على حل البرلمان والذهاب إلى معركة انتخابية جديدة؛ وإمّا التصويت على حجب الثقة عن الحكومة الحالية، وإقامة حكومة بديلة لها، شريطة أن يشمل مقترح حجب الثقة اسم رئيس الحكومة الجديد المقترح؛ وإمّا التصويت على إبقاء الحكومة الحالية بدعم أكثرية صغيرة أو عارضة، غير ملتزمة بشروط الإئتلاف الحكومي، ما سيبقيها في حالة ضعف مستديم وخاضعة لاشتراطات من يدعمها أو لابتزازاتهم، خاصة في جميع المسائل التي يتطلب حسمها تصويتا عدديا، مثل تشريع القوانين والميزانيات وغيرها. تضع جميع هذه الاحتمالات المواطنين العرب وقياداتهم السياسية أمام معاضل كأداء وتقرّبهم نحو فوّهات العبث والهاوية.
كان واضحا أن حكومة بينيت – لبيد ستعيش في حقل مزروع بالألغام السياسية، وأنها إذا نجت مرّة أو أكثر، فإنها حتما ستصطدم بلغم «قاتل» سيؤدّي إلى نهاية عمرها
من الجدير أن ننتبه إلى أن انسحاب العضو عيديت سيلمان من الإئتلاف كان على خلفية موقف وزير الصحة، رئيس حزب ميريتس نيتسان هوروفيتس، في مسألة دينية، بعد سماحه بإدخال الأطعمة الخامرة إلى مستشفيات إسرائيل خلال أيام عيد الفصح اليهودي؛ وهو ما تمنعه «الهلاخاه» اليهودية، التي استماتت عيديت سيلمان بالدفاع عنها، وقطعت، من أجلها، حبل الود مع حزبها وزعيمه. من الواضح أن هذه القضية كانت الذريعة لتنفيذ خطوة الانسحاب، التي جاءت لتذكّرنا بهويتها وهوية زملائها في حزب «يميناه» وشعورهم حيال هذه الحكومة التي يعتبرونها «غير طاهرة» لأسباب عديدة، من بينها أنها مدعومة من قبل «الحركة الإسلامية» التي تعدّ عندهم، رغم مهادنتها المنبطحة لسياسات حكومتهم ولقراراتها، خنجرا مغمدا في خاصرة الدولة اليهودية. أقول هذا مفترضا أن القائمة الموحّدة الاسلامية ستبقى داعمة لحكومة بينيت-لبيد، أو لأي حكومة غيرها، إذا قبِل بها، طبعا، قادة الأحزاب التي ستشّكل تلك الحكومة في الأسابيع المقبلة؛ وهذا ما أشكّ في حصوله. بالمقابل، فإننا لا نعرف كيف سيتصرف نوّاب القائمة المشتركة وأطرهم الحزبية إزاء هذه الأزمة؛ فعلى الرغم من أننا نلاحظ بداية وجود تمايزات وفوارق في تصريحاتهم ومواقفهم، نراهم يقرّون بخطورة المرحلة وبتداعياتها الممكنة علينا، كمواطنين عرب. أخشى أن تخذلهم الحكمة وأن يختلفوا قبل يوم الامتحان؛ لاسيما مع وجود احتمال بأننا نقف أمام آخر معركة في «حروب اليهود» التي ستحدد نتائجها، بطريقة مأساوية، من هي الطغمة التي ستتحكم في الدولة وفي رقابنا؟ وما شكل النظام السياسي الذي سيتسيّد على المنطقة في العقود المقبلة؟
ربما لم يقرأ بنيامين نتنياهو نبوءات من تكهنوا بزوال إسرائيل حتى نهاية هذا العام؛ أو ربما قرأ وضحك من ذلك في غيّه، وراح يعبّر عن غبطته لانسحاب عيديت سيلمان من الإئتلاف، محيّيا باسم الآلاف من شعب إسرائيل، عودتها إلى «المعسكر القومي» ومؤكدا أن ما أرشدها كان «القلق على الهوية اليهودية لدولة إسرائيل والخوف على أرض إسرائيل». وإذا كانت أقوال نتنياهو غير كافية كدليل للآتيات العاتيات، فلنقرأ ما صرّح به رئيس حزب «الصهيونية المتدينة» بتصلئيل سموطريتش، وهو لسان حال المرحلة السياسية المقبلة، واصفا الخطوة «بفجر يوم جديد في دولة إسرائيل» مضيفا: «إنها نهاية حكومة غير صهيونية، حكومة بينيت والحركة الإسلامية، وهي اللحظة التي يمكن فيها تغييرها بحكومة يهودية، صهيونية وقومية» ثم انتقل ليحيّي عضو الكنيست عيديت سيلمان «على خطوتها التي وضعت من خلالها خطا أحمر أمام المسّ بهوية دولة إسرائيل اليهودية وبقيم الصهيونية الأساسية». ما أوضح هذا الكلام وما أخطره وهو يقال وأصداء عمليات إرهاب «الدواعش» ما زالت تملأ الفضاء وتحشو صدور المجتمعات اليهودية بالكراهية للعرب وتجيّشهم لساعة الانتقام. لقد كان واضحا للكثيرين أننا نعيش مرحلة انتقالية خطيرة، ضعُف فيها أداء الأحزاب العربية، بينما برز دور «القائمة الموحدة الاسلامية» التي قرر قادتها، لأول مرة في تاريخ العمل السياسي بيننا، دعم حكومة إسرائيل في موقف ساعد على اختمار الظروف للانتقال إلى شكل حكم مستبدّ جديد في الدولة «اليهودية الصهيونية القومية». لا يجوز أن نفصل ما يجري في أروقة الكنيست عن الأحداث والظواهر الحاصلة داخل مجتمعاتنا المحلية، وعن تطوّراتها؛ وقد تكون هبة مايو المنصرم الجماهيرية أبرزها حجما وأخطرها بما خلّفته من غضب في النفوس وجسور محروقة بين الدولة ومواطنيها العرب، لكننا يجب ألا ننسى أنها اندلعت ومجتمعنا العربي يعيش في مناخ عام حاضن للعنف وعاجز أمام عالم الجريمة التي تنفذها نفوس متطرفة ومأجورة وجاهزة للقيام بجرائم قتل ضد الأبرياء، تارة باسم الدين أو الدفاع عن أمّته، وتارة من أجل الشرف؛ ودائما باسم البلطجة وسطوتها.
وعلى الرغم من تقصير الدولة وإهمال حكوماتها في مواجهة مظاهر العنف والجريمة المستفحلة بيننا، نرى أن معظم قادة الأحزاب الصهيونية اليمينية يرفعون شعار «علينا إعادة الأمن والأمان إلى شوارع مدننا وبلداتنا» ويستغلون اللحظة السياسية الحاضرة وتداعيات مشاهد عمليات قتل المواطنين في بئر السبع والخضيرة وبني براك، ويتناسون أن جميع القيادات السياسية والإسلامية والمؤسسات الفاعلة بين المواطنين العرب، شجبت تلك العمليات وأكدت رفضها لهذه الوسائل بشكل قاطع. قد يكون من المناسب اليوم ونحن على أعتاب حقبة سياسية جديدة داخل إسرائيل أن أذكّر بما أشرت إليه مرارا؛ فالاكتفاء بالشجب وهو مقرون بدور الاحتلال الإسرائيلي وممارساته كمولّد لتلك الظواهر ومحفز لمن يمارسونها، وإن كان صحيحا وضروريا من الناحية السياسية، لا يكفي. من الطبيعي أن يمتلئ كل إنسان يتعرض لمشاهد قمع المحتلين وعناصرهم غضبا على المحتل وقمعه، لكنه لن يصل إلى تلك المرحلة النفسية والاستعداد الفعلي لقتل نفسه والآخرين، من دون أن تضاف إلى دور الاحتلال وممارسات جنوده، عوامل مجتمعية داخلية هي التي تدفعه في النهاية إلى تنفيذ تلك العمليات المدانة. لم تتوقف قيادات مجتمعنا عند هذه الظاهرة بجدّية، ولم تحاول سبر مكنوناتها بجرأة وتفكيك بناها بمسؤولية؛ ولو فعلوا ذلك لتوصّلوا إلى مجسات التأثير السلبية على تلك النفوس، واكتشفوا معامل وعوامل التخمير الفعالة، خاصة بعد أن وضع بعضهم أطراف أصابعهم على جزء من تلك المؤثرات، حين أشاروا إلى الفقر والبطالة والجهل وما يجري من على بعض منابر التجييش الدينية، التي تحترف نشر خطابات متزمّتة عنصرية مكرورة، همّها الدعوة للاقتصاص من الكفرة والتصدّي «للآخرين» والثأر للدين ورموزه المقدسة وفي طليعتها المسجد الأقصى على سبيل المثال.
نحن اليوم أقرب إلى نقطة اللاعودة ويجب أن نسقط الذرائع الدموية من أيادي كتائب الموت، ومن لا يقر بذلك فليقرأ كتاب «توراة الملك» وليتعرف على فقهه الذي سنكون نحن أول ضحاياه.
كاتب فلسطيني
“القدس العربي”