خاطب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، عبر الفيديو من كييف يوم الثلاثاء الماضي أعضاء مجلس الأمن الدولي، خلال جلسة مخصصة لبحث الأوضاع في أوكرانيا قائلا: «إن بإمكان مجلس الأمن إما استبعاد روسيا حتى لا تتمكن من عرقلة القرارات بشأن عدوانها وحربها على بلاده، ومن ثم القيام بكل ما في وسعه لإحلال السلام، أو وضع خطة حول كيفية إصلاح المجلس، وإنْ لم يكن هناك بديل، فسيكون الخيار التالي هو حل أنفسكم تماماً».
إطلاق صرخات قهر ضد تركيبة المنظومة الدولية المكلفة بصيانة السلم والأمن الدوليين ليس جديدا. فكم مرة أطلق مثل هذا النداء من دول تعرضت لجريمة العدوان، مثل العراق وفيتنام وكمبوديا وليبيا وفلسطين وأفغانستان والبوسنة وبنما وغرانادا ونيكاراغوا وغيرها. ولا يكاد يمر شهر من دون أن يصرخ المندوب الفلسطيني «متى سيتحمل مجلس الأمن مسؤولياته ويطبق قراراته» لكن تلك الصيحات تقع على آذان صماء، خاصة عندما يتعلق الأمر بالدول الكبرى وإسرائيل المحمية من الولايات المتحدة.
لقد ظهرت أصوات عظيمة من داخل المجلس وخارجه بضرورة إصلاح مجلس الأمن، الذي لم يعد يمثل عالم اليوم بدوله الـ193 مقارنة بـ50 دولة عند إنشاء الأمم المتحدة. الدول الصغيرة والمتوسطة والمعتدى عليها، تلجأ للمجلس وتطالبه بالقيام بدوره في حفظ السلم والأمن الدوليين وتنفيذ قراراته ومنع جريمة العدوان وفرض السلم بين الأطراف المتخاصمة وفرض سلة عقوبات تردع المعتدي، إذا ما استمر في عدوانه، لكن الردع والعقوبات لم تكن موجهة للدول الكبرى بسبب هذا النظام المختل والمركب بطريقة خبيثة ليخدم مصالحها أصلا. لقد وضع حلفاء الحرب العالمية الثانية الثلاث (روسيا وأمريكا وبريطانيا) آلية أمنية رصينة حقيقية، لكنهم أبقوا أعنة تلك الآلية في أيديهم. تشرتشل أصر على إضافة فرنسا كي لا يستفرد به الدب الروسي وأيده روزفلت، وستالين أدخل الصين التي لم تكن قد تحررت بعد من بقايا الاحتلال الياباني. وقد أجلست الصين الوطنية (تايوان) في المقعد ثم تم التشبت بتلك الجزيرة ممثلا للصين كلها إلى أن تم طردها عام 1971 بعد التقارب الأمريكي الصيني في عهد الرئيس نيكسون.
إطلاق صرخات قهر ضد تركيبة المنظومة الدولية المكلفة بصيانة السلم والأمن الدوليين ليس جديدا. لكنها تقع على آذان صماء، عندما يتعلق الأمر بالدول الكبرى وإسرائيل
عملية الإصلاح
لقد ظن البعض أن صرخة زيلينسكي هي الأولى التي تطرح فكرة إصلاح مجلس الأمن، علما أن مجلس الأمن تم توسيع عضويته عام 1965 من 11 عضوا إلى 15، حيث أضيف أربعة أعضاء جدد للعضوية غير الدائمة يمثلون القارات الأربعة. فكيف تتم عملية الإصلاح أو التغيير أو التوسيع أو إعادة النظر في الفيتو؟ جاء في المادة 108 من ميثاق الأمم المتحدة ما يلي: التعديلات التي تدخل على هذا الميثاق تسري على جميع أعضاء «الأمم المتحدة» إذا صدرت بموافقة ثلثي أعضاء الجمعية العامة، وصدق عليها ثلثا أعضاء «الأمم المتحدة» ومن بينهم جميع أعضاء مجلس الأمن الدائمين، وفقا للأوضاع الدستورية في كل دولة. والمادة 109 البند 2: كل تغيير في هذا الميثاق أوصى به المؤتمر بأغلبية ثلثي أعضائه يسري إذا صدق عليه ثلثا أعضاء «الأمم المتحدة» ومن بينهم الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن وفقا لأوضاعهم الدستورية. إذن أي تغيير في الميثاق يتطلب عقد مؤتمر خاص لأعضاء الجمعية العامة، ويتم التصويت على التغيير. ويجب أن تضم الأصوات الإيجابية جميع أعضاء مجلس الأمن الدائمين الخمسة. وهذا لا يكفي ولكن يجب أن تذهب هذه التعديلات إلى البرلمانات أو المجالس التشريعية ويتم التصديق عليها بغالبية الثلثين، بما في ذلك جميع الدول الخمس دائمة العضوية. إذن التعديل وإصلاح مجلس الأمن الذي يمثل الجهاز التنفيذي للأمم المتحدة أقرب إلى المستحيل إلا إذا حدث التوافق بين الأعضاء الخمسة الدائمين.
محاولات تطوير دور الأمم المتحدة
بعد نهاية الحرب الباردة انتخب بطرس غالي أمينا عاما سادسا للمنظمة الدولية ممثلا عن القارة الافريقية. وقد دعا لقمة دولية على مستوى الرؤساء لأعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر في 31 يناير 1992 للإجابة على سؤال واحد: كيف يمكن للأمم المتحدة أن ترتقي لمستوى التحديات الجديدة في عالم ما بعد القطبين؟ كيف يمكن للأمم المتحدة أن تصبح أكثر فاعلية وتأثيرا وحضورا وقوة وقادرة ليس على حل النزاعات الدولية، بل على درء وقوعها والتنبه للأزمات قبل وقوعها. وبعد مناقشة بين الحضور، طلب من بطرس غالي نفسه أن يضع تصوره خلال ستة أشهر لدور المنظمة الدولية بعد الحرب الباردة. وبالفعل وضع كتيبا مهما في 17 يونيو 1992 أطلق عليه «خطة للسلام». أراد بطرس غالي أن ينقل دور الأمم المتحدة من دور الشرطي الذي يذهب بعد وقوع الجريمة ليكتب تقريرا عنها إلى دور الإطفائي الذي ينشر أجهزته الصغيرة أولا لتشم الحرائق قبل وقوعها واحتوائها وهي صغيرة إن وقعت، والتأكد من عدم انتشارها إلى الغرف المجاورة، وإن لم يكن ذلك ممكنا على الأقل حماية المباني المجاورة. وقسّم غالي أدوار الأمم المتحدة إلى ثلاثة: قوات منع النزاع أو الوقاية، كما حصل في مقدونيا الشمالية، وقوات حفظ السلام بعد توقف المعارك، ثم قوات بناء السلام بعد النزاعات، كما حدث في تيمور الشرقية وناميبيا وكمبوديا مثلا. ولتحقيق ذلك طالب بطرس غالي بتأمين قوات سلام مدربة وجاهزة للتحرك تعمل تحت علم الأمم المتحدة سماها «وحدات فرض السلام». وعلى الفور عارضته الولايات المتحدة وأفشلت مشروعه، ظنا أن نهاية الحرب الباردة سيؤدي إلى قيام عالم القطب الواحد الآمر الناهي إلى الأبد (على رأي فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ) وما الأمم المتحدة إلا آلية من آليات تنفيذ السياسة الأمريكية كما فعلت في ليبيا والعراق ويوغسلافيا في تسعينيات القرن الماضي.
إصلاح مجلس الأمن
كان بطرس غالي يعرف أن المنظمة الدولية لا يمكن أن ترقى لمستوى التحديات القديم منها والمستجد إلا بإصلاح مجلس الأمن. وإصلاح المجلس يعني التعامل مع أربع مسائل أساسية: عملية توسيع العضوية، تمثيل عادل للمجموعات الجغرافية وخاصة أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، إعادة النظر في نظام الفيتو، توسيع صلاحيات المجلس ليشمل الأخطار المستجدة مثل الإرهاب، والتحديات البيئية، والأوبئة والتكنولوجيا الحديثة، وما جلبته من إمكانيات وعسكرة الفضاء وغير ذلك.
كتب بطرس غالي رسالة إلى جميع الدول الأعضاء وطلب منهم أن يكتبوا على ورقة كيف ترى كل دولة إصلاح مجلس الأمن، ثم أنشأ لجنة خاصة لمراجعة جميع الاقتراحات وتصنيفها، دون إهمال أي منها. لكن سفيرة الولايات المتحدة آنذاك، مادلين أولبرايت، قررت أن تستخدم الفيتو ضد بطرس غالي وتخرجه من الطابق الثامن والثلاثين، وتأتي بكوفي عنان مكانه، وهو الذي قدم تقريرا للجمعية العامة حول أهم الاقتراحات التي جمعتها اللجنة لإصلاح مجلس الأمن نستطيع أن نلخص أهمها:
– تضاف للعضوية الدائمة دولتان صناعيتان (اليابان وألمانيا) وثلاث دول من آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا (الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا أو نيجيريا).
– يضاف تسع دول غير دائمة العضوية، ولكن تستمر عضوية الدولة أربع سنوات بدل سنتين ويمكن تجديدها برضى المجموعة الجغرافية التي تمثلها.
– تضاف مجموعة دول إلى العضوية الدائمة دون حق الفيتو ويتم توسيع العضوية غير الدائمة ليصل عدد الأعضاء إلى 25 عضوا.
– يتم تقييد استخدام الفيتو للقضايا المهمة المتعلقة بالأمن القومي على أن يكون مربوطا بتصويت عضوين دائمين وثلاثة أعضاء غير دائمين.
لكن الخلافات دبّت بين الدول الإقليمية المرشحة للعضوية الدائمة. فأفريقيا طالبت بمقعدين دائمين، لأن المقعد الدائم الواحد تنازعت عليه كل من نيجيريا وجنوب أفريقيا ومصر والجزائر. وفي آسيا رفضت باكستان ومعها العديد من الحلفاء ترشيح الهند للمقعد، كونها طرفا في نزاع كشمير وفي حالة انتهاك للقانون الدولي. وتنازعت دول أمريكا اللاتينية على المقعد، واعتبرت المكسيك أكثر أهلية من البرازيل التي تنفرد بتكلم اللغة البرتغالية في قارة كلها تتحدث اللغة الإسبانية تقريبا. الأرجنتين اعترضت على المكسيك وقالت إنها جزء من أمريكا الشمالية.
انتهت المحاولات إلى لا شيء، وبقيت الأمور تراوح مكانها إلى يومنا هذا، وأحيل الأمر إلى لجنة منبثقة عن الجمعية العامة لمراجعة عملية الإصلاح. وهذا ما تريده الدول الخمس دائمة العضوية التي لا تسعى إلى أي تغيير لأنه سيكون على حسابها.
وبما أن إصلاح المجلس شبه مستحيل فالأفضل تعزيز دور الجمعية العامة وقيام غالبية ساحقة فيها باتخاذ قرارت مصيرية، وقد حدث ذلك من قبل. فقد أنشأت الجمعية العامة آليات خارج نطاق مجلس الأمن مثل مجلس حقوق الإنسان ليراقب الانتهاكات على مستوى العالم ومحكمة الجنايات الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب. كما أنشات الجمعية العامة محكمة للتجارة العالمية وأخرى لقانون البحار. صحيح أنها ليست بقوة مجلس الأمن لكنها لا شك تسد بعض الثغرات في آليات العمل الدولية التي أنشئت عام 1945 لتعكس هموم تلك المرحلة لا هموم وتحديات عالم اليوم.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي
“القدس العربي”