تحدث كثير من دارسي اللغة العربية والمختصين بها عن استحاله فصلها عن دلالتها وإحالاتها الدينية. فلغة القرآن ستبقى دوماً لغة إسلامية بالعمق، ومن الصعب أن يجادل أحد في هذه الحقيقة، أو أن يسعى لتغييرها. إلا أن السجالات التي تندلع بشكل دوري، حول قضايا مثل جواز الترحّم على غير المسلمين، تجعل فكرة «إسلامية» العربية ليست بسيطة، كما تبدو لأول وهلة. فملايين الناطقين بهذه اللغة، بمن فيهم غير المؤمنين بالعقيدة الإسلامية، يفضلون استخدام المفردات والتعابير ذات السمت الديني الإسلامي. يمكن للمتكلم مثلاً أن يستعمل ما يشاء من صيغ العزاء، التي ستبدو ملفقة، أو حتى مترجمة عن لغات أخرى، ولكن تبقى عبارة «رحِمهُ الله» الأكثر تأثيراً وصدقاً في إيصال مشاعر المشاركة والتضامن في الحزن والأسى. وهذا يعني أن غير المؤمنين وأتباع بقية الديانات، من الناطقين بالعربية، هم مسلمون ثقافياً، طُبعت ألسنتهم، وبالتالي عالمهم الرمزي بأكمله، بثقافة إسلامية شديدة الترسّخ والغنى. غير أن تعميم الترميز الثقافي الإسلامي بهذا الشكل الواسع يعني في المقابل أنه أكبر من الاختزال بقواعد العقيدة الإسلامية، بالمعنى المنضبط للعقيدة.
يرى المتدينون الرافضون للتعزية في غير المسلمين، أن موقفهم شأن عقائدي بحت، إذ يحق لأتباع أية عقيدة أن يستخدموا تعبيراتهم الدينية، أو أن يمتنعوا عن استخدامها بحسب ما يقتضيه إيمانهم، وهو طرح يصعب الاعتراض عليه، وربما يكون في صلب حريات أساسية، مثل حرية المعتقد والضمير والتعبير. كما أن فرز البشر، بين من يحق له دخول ملكوت الله ومن سيبقى بعيداً عنه، مبدأ تأسيسي في معظم الأديان، والتدخّل به من قبل غير المتدينين أمر غير مقبول، إن لم يكن انتهاكاً لحرية المعتقد. إلا أن هذا المنظور يغفل مسألتين أساسيتين، أولاهما أن لغة الدين الإسلامي الأساسية، أي العربية، ليست لغة طائفة دينية صغيرة ومغلقة، تسعى للحفاظ على ثقافتها ضمن مجتمع أغلبية، وصيانة تعبيراتها ورموزها من تهديدات «الاستيلاء الثقافي»، وبالتالي فإن محاولة تثبيت استخدام العربية ضمن المنظورات العقائدية البحتة تبدو عبثية ولا داعي لها؛ وثانيهما أن التعبيرات اللغوية، ذات الجذر الديني، لا تقتصر وظيفتها على الجانب العقائدي، بل لها جانب اجتماعي أكثر أهمية، فهي فعل كلامي، يؤدي وظيفة تواصلية أساسية. وعندما يتعلق الأمر بلغة ينطق بها مئات الملايين، من مختلف التوجهات، تغدو «حرية المعتقد»، من النمط الذي يطالب به أنصار عدم جواز الترحّم على غير المسلمين، اعتداءً من حرّاس العقيدة على اللغة، وبالتالي المجتمع.
يطرح هذا «الاعتداء» أسئلة كثيرة عن أسباب الالتباس الديني/الثقافي الذي نعيشه: لماذا تصبح اللغة، اليومية والبسيطة، مجالاً لصراع عقائدي كبير، له جذوره السياسية والاجتماعية؟ وكيف يمكن فهم مبدأ «حرية المعتقد» وسط هذه المعمعة؟
يرى المتدينون الرافضون للتعزية في غير المسلمين، أن موقفهم شأن عقائدي بحت، إذ يحق لأتباع أية عقيدة أن يستخدموا تعبيراتهم الدينية، أو أن يمتنعوا عن استخدامها بحسب ما يقتضيه إيمانهم، وهو طرح يصعب الاعتراض عليه، وربما يكون في صلب حريات أساسية، مثل حرية المعتقد والضمير والتعبير.
الدين المتعالي
يمكن الحديث عن توتر دائم بين العقيدة والثقافة، فعلى الرغم من أن العقيدة الدينية تنتج دوماً عناصر ثقافية، قابلة للتعميم والترسّخ بقوة في المجتمع، إلا أن حركة المجتمعات أشد مرونة بمراحل مما تتحمله أي عقيدة. يخلق البشر عدداً لا متناهياً من التركيبات المهجّنة والمختلطة، عبر مزج كل العناصر والرموز والممارسات الثقافية المتوفرة في مجتمعهم، وإعادة إنتاجها بأشكال جديدة، الأمر الذي يعتبره أنصار العقيدة «بدعاً» على الأغلب.
يمكن، بالاستعانة بمفاهيم عالم الاجتماع الألماني نيكلاس لومان، التمييز بين نمطين اجتماعيين للتعامل مع هذا التوتر: الأول يرتبط بما يسميه لومان «مجتمعات التمايز الطبقي» (بالمعنى القروسطي للطبقية)، التي اتسمت بحضور عدة طبقات مغلقة متجاورة، لا يجوز لها كثير من الاختلاط: فلاحين، نبلاء، كَتَبة، عسكريين محترفين، إلخ. ولكل من هذه الطبقات تعاملها الخاص مع العقيدة. يختلف دين الفلاحين بالتأكيد عن دين سادتهم. الحرفيون كانت لهم نقابتهم في العصور الوسطى، التي ينتسب كل منها لقديس ما في المسيحية، ولطريقة صوفية معينة في الإسلام؛ أما الكَتَبة، أي القادرون على القراءة والكتابة، والمتعيّشون منها، فربما يكونون أقرب للعقيدة «الصافية»، ولكنهم لم يسعوا للتدخل في حياة بقية الطبقات، وفرض العقيدة القويمة عليها، إلا في حالات خاصة، أي عندما وجدوا سنداً ممن يملكون القوة العسكرية والمادية. وكثير من دول «الإحياء الديني»، من دولة الموحدين في المغرب الأقصى والأندلس، وحتى دول آل سعود الثلاث في الجزيرة العربية، قامت على أساس مثل هذا التحالف، وعلى حساب تحطيم ممارسات البشر الثقافية والدينية، بطريقة شديدة الدموية أحياناً.
المجتمعات الحديثة، وهي في عرف لومان «مجتمعات تمايز وظيفي»، أتت بنوع ثانٍ من التعامل مع المسألة العقائدية، إذ جعلت الدين نظاماً اجتماعياً مستقلاً من الناحية التشغيلية، منفتحاً من الناحية المعرفية، أي أنه يعمل وفق ترميزاته وإجراءاته وأسئلته الخاصة، باستقلال عن بقية الأنظمة الاجتماعية، مثل أنظمة القانون والعلم والاقتصاد والفن، إلا أنه قادر على التأثير فيها عبر ما يرسله اجتماعياً من رموز وأفكار. وما المجتمع نفسه إلا «منطقة اقتران بنيوي» بين كل تلك الأنظمة. وربما هكذا تم اختراع «الدين» غربياً، بوصفه ميداناً متمايزاً عن بقية ميادين الحياة، وكان هذا أمراً ضرورياً لعلمنة المجتمع بشكل شامل من جهة، إذ أنه حصر «الديني» في حقل خاص وضيق، وترك بقية الميادين مجالاً لـ«لعلماني»؛ ولكنه، من جهة أخرى، ساهم في جعل العقيدة أكثر نقاءً، إذا تخفّفت من عبء بدع المجتمع، وصار بإمكانها أن تشتغل وفق لمبادئها وإجراءاتها وحقائقها، بانفصال عن تعقيدات الحياة اليومية.
قد يكون هذا سبباً لكل من التسامح الديني والأصولية الحديثة في الوقت نفسه. فالتسامح يقوم على فهم المتدينين لمحدودية المجال الاجتماعي المخصص لعقيدتهم، ما يجعلهم يحجمون عن فرض شؤونها على بقية الميادين، ويدركون أن حرية المعتقد والضمير والتعبير تعني، من ضمن أمور أخرى، حق البشر في الاهتمام بالحقل الديني أو إهماله، وممارسة حياتهم ضمن بقية الحقول، دون تدخل مباشر من الدين؛ أما الأصولية فتسعى لفرض العقيدة، التي بلغت أوج صفائها، على كل الميادين والأنظمة، التي ستُنكر وتُرفض بأكملها بسب استقلالها عن الدين. ما يجعل الأصولية المعاصرة شديدة الراديكالية، وذات نزعة تدميرية للمجتمع. وإذا كانت حركات الإحياء الديني القروسطية قد اكتفت بمحاولة فرض العقيدة القويمة على ممارسات كل الطبقات، فإن الأصولية الحديثة لن ترضى بأقل من تحطيم المجتمع القائم نفسه، وإقامة مجتمع جديد.
تحرير اللغة والثقافة رسالة مهمة للأصوليين الإسلاميين، مفادها أنهم لا يمتلكون اللغة العربية، ولا حتى الثقافة الإسلامية، فهما أرث مشترك لكل سكان المنطقة، أياً كان توجههم العقائدي والسياسي. وربما كان الدفاع عن المشترك، في وجه محاولات خصخصته لمصلحة جهة ما ذات امتياز، المعنى الأكثر عمقاً وأهمية للديمقراطية.
المعركة على العربية
قد تكون اللغة العربية أحد أبرز الأمثلة للتوتر بين العقائدي والثقافي، فقد ساهمت النصوص والمفاهيم الدينية بصياغة كثير من تعبيراتها وتراكيبها، إلا أن الناطقين بالعربية استعملوا تلك التعابير بطريقة مرنة، في الآداب الشفوية والأغاني والأمثال الشعبية، بل حتى في النكات والشتائم واللعنات. وبالتالي فمن الطبيعي أن تصير معركة تطهير اللغة العربية، من منظور عقائدي، من أولى معارك الأصولية. عملت «الصحوة الإسلامية» منذ بدايتها على الهيمنة اللغوية: قل ولا تقل؛ أساليب تحية ومخاطبة مغايرة للسائد؛ أسماء غير مألوفة للمواليد الجدد، تبدو مبالغاً في «إسلاميتها»، وكذلك للشركات والمحلات التجارية؛ وصولاً إلى تحريم تهنئة أبناء الديانات الأخرى بأعيادهم، وتأكيد عدم جواز الترحّم على غير المسلمين.
تبدو عربية «الصحوة» نمطاً جديداً من الفصاحة، التي تحاول نزع الشرعية عما هو محكي في الحياة اليومية، ولكن ليس بدعوى عاميته أو سوقيته فقط، بل أيضاً بسبب خرقه للعقيدة القويمة. سعت «العقيدة»، بعد أن تحدّثت وتعلمنت، إلى ابتلاع اللغة ذاتها، وهكذا خرجت مسألة جواز الترّحم على غير المسلمين من عوالم العقيدة البحتة لتطغى على كل المجالات، وتصبح معركة سياسية، بالمعنى الحديث للسياسة.
الحرية اللغوية
بالعودة لمسألة حرية المعتقد فإن مواجهة الأصولية لا تعني فقط التأكيد على التسامح الديني، وحق الأقليات الدينية، وغير المؤمنين أيضاً، بالتعبير الحر عن معتقداتهم، بما في ذلك الحق بالتجديف، المساوي لحق المتدينين بالتبشير، بل أيضاً التأكيد على الحرية اللغوية والثقافية، أي حق البشر بالتعامل الحر مع مفردات ثقافتهم ولغتهم، واستخدامها في تواصلهم، وإبداع تركيبات جديدة منها. يمكن للحرية اللغوية الثقافية أن تجعل التوتر الدائم والضروري بين العقيدة والثقافة مصدراً لإبداع وتجديد فكري وثقافي، يحتاج إليه العالم العربي بشدة، بدلاً من الغرق بالمناقشات العقائدية التي لا تنتهي، والتي يضطر غير المتدينين أنفسهم للانجرار إليها، بما يخالف مبدأ حرية المعتقد.
كذلك فإن تحرير اللغة والثقافة رسالة مهمة للأصوليين الإسلاميين، مفادها أنهم لا يمتلكون اللغة العربية، ولا حتى الثقافة الإسلامية، فهما أرث مشترك لكل سكان المنطقة، أياً كان توجههم العقائدي والسياسي. وربما كان الدفاع عن المشترك، في وجه محاولات خصخصته لمصلحة جهة ما ذات امتياز، المعنى الأكثر عمقاً وأهمية للديمقراطية.
كاتب سوري
“القدس العربي”