في عام 1899 استقال الضابط الإنكليزي إليوت كراوشاي وليامز من سلاح المدفعية الملكي، وقرّر العودة إلى بلاده في رحلة بحرية عبر بلاد فارس وبحر قزوين وروسيا. دامت رحلته ثمانية أشهر، دوّن خلالها يومياته ومشاهداته في كتاب صدر عام 1903 يحمل اسمه.
كان الرجل «مبهوراً» برجال الشرطة الفرس، «التوفانكجية»، وقام بإجراء عدد من التحقيقات حول أخلاقهم ووسائلهم في طلب العيش، ووضع بحثاً حول هذا الأمر سماه: «اللصوصية الفارسية». ننقل منه الملاحظات التالية:
• يمارس كلّ فرد في بلاد فارس اللصوصية بطريقة أو أخرى، وكلما سنحت له الفرصة لذلك، ولكن أكثر العناصر مهارة هم موظفو الحكومة «التوفانكجية».
• من أجل قبولهم رسمياً في المنصب على هؤلاء دفع مبالغ كبيرة من المال إلى المسؤولين عن التوظيف. مثلاً: يشترط محافظ «بوراجون» على كلّ توفانكي دفع مبلغ 450 تومانا، وبهذا يتمّ تحويل هؤلاء الشرطة إلى لصوص محترفين ومسلحين، وإذا تورطوا في أعمال سيئة أو أخذ رشوة أو تقصير، فإن من يدافع عنهم هم السلطات العليا. ثم يقطع الرحالة الإنكليزي بحثه القصير، ويذكر أن هذه الأمور لا تقتصر على بلاد فارس، ولكنها تعمّ بلاد الشرق بشكل أو بآخر، ثم يقول: وإلى هذا الجزء من العالم يمكن أن تنسب هذه الأبيات الشعرية:
«البراغيث الكبيرة تحمل على ظهورها
براغيث صغيرة حتى تلسعها
والبراغيث الصغيرة لديها براغيث أصغر
وهكذا وإلى ما لا نهاية».
هذا هو النظام الذي تتكون منه الحكومة، ولا عجب في ذلك إذ يُقاس نهم وشراهة البرغوث بمدى ما يُمارَس ضدّه من لدغ ومدى ما يُمارِس هو من لدغ ضد الأصغر منه.
انتهى بحث الرحالة إليوت كراوشاي وليامز.
ثورة التسعين
بين ليلة، وصبيحة يوم، يتحرّر شعب من حُكم باطل يشبه في مدى تخريبه للناس والأرض والجوّ والماء.. زلزالا يتمّ في كلّ لحظة من زمن الثلاثة عقود التي حكم فيها حزب البعث المجرم ورئيسه الطاغية. عندما ارتفع النهار في ذلك اليوم، وكان الربيع في أوّله، كان كلّ شيء قد انتهى. تبخّرت السلطة الحاكمة بكل قواتها الأمنية، وكانت الأقوى في الشرق والغرب، مثل قطرة ماء على الدرب في نهار صيف.
هل تموت الدولة بمثل هذه السرعة؟
ثم جلسنا، نحن الثوار، كي نرتاح، بعد أن نفضنا أيدينا من آخر ذرة غبار أسود. غنّى أحدنا – من سعدي يوسف- «هل كانت الأرضُ نصفين/ أم أنها البرتقالةْ؟». وقال أحدنا: «لا تتصوّروا أننا وحدنا من أنجز الثورة، الطّيرُ معنا، والأسماك، والنخل، حتى أدقّ عشبة في هذه الأرض كانت معنا، لأن أذى وقسوة وظلم صدام وربعه تحمّله معنا الطائر والسمكة والشجرة، والعشب… خفقت راياتنا عالية في ذلك اليوم، وكنا نحمل آمالنا وأحلامنا مثل أواني البيت، ثم سمعنا من يأمرنا بأن نلقيها على أرض الشارع الإسفلت. لم نرَ أحدا وراءنا ولا أمامنا. جاء المعارضون من جهة الشرق، واحترقت مؤسسات الدولة والمكتبات، وامتدّت النار إلى المتاجر، وعمّت السرقات، ولا نعلم حتى اللحظة من قام بهذه الأفعال، فالمعارضون الشرقيون يتهمون رجال الدولة، ويقول هؤلاء إنّها من أفعال حزب البعث، وكان أن صار اسم تلك الأيام «الانتفاضة الشعبانية» لأنها جرت في شهر شعبان، لكني أدعوها «ثورة التسعين»، وهي تحتاج إلى مفصّل في تاريخ أيامها ووقائعها، وكيف هجم الجيش أخيرا على المدن الثائرة، مدينة مدينة وحارة حارة وزقاقا زقاقا ودربونة دربونة وبيتا بيتا – باختصار شديد، كل من عثرت عليه قوات الجيش حيّا، قتلته بالرشّاش الكلاشنكوف وظهره إلى الحائط، أو ربما كان ظهره إلى السماء، مقيّدَ اليدين، أو إلى الأرض. وأُلقيت جثث الجميع في نهر دجلة الهادر في مثل هذا الوقت من السنة- وهو الربيع! ويحتاج هذا إلى الكثير من الكلام، وآثرنا هنا القليل منه.
الدماغ الأسفل والدماغ الأعلى
قال صديقي: «أكثر ما يزعجني في العمل هم المتمارضون، لا شيء يشكون منه ومع ذلك يتردّدون كثيرا على عيادة الطبيب، وقسم منهم لا يملكون ثمن الدواء أو أجرة الكشف الطبيّ». كنت أصغي إليه، وأشاركه الرأي، فعمل الطبيب هو نوع من المجابهة الحتمية مع عدوّ اسمه المرض، فإن لم يكن ثمة داء كان العراك يشبه من يناطح الهواء، وهذا أقلّ ما فيه أنه عمل عبثيّ. ارتشف صديقي من شايه، وأتمّ كلامه: «المشكلة الكبرى هي أن المتمارض – وأغلبهم من الجنس الرقيق- لا يريد الكلام الأصحّ، فلو أخبرت المرأة بأنها أكثر عافية من عشتار، أو أفروديت لأتتك بألف حجة وحجة بأنها عليلة، وأنك تجعلها تضطرّ إلى السفر إلى الهند أو إلى إيران لغرض الشفاء». وقطع كلام صديقي هاتفه، أجاب عليه باختصار، وتابع: «ثم جرّبتُ أن أخترع للمتمارض داءً لا وجود له، وأعطيه من أقراص الفيتامينات علاجا، ونجحت الطريقة، وارتحنا نحن الاثنين، أقصد أنا والمريض». «وهل لديك القدرة على الأمر؟». سألتُ، وطلبت شايا آخر لي: «كان الأمر في البدء سهلا، ثم صار يشقّ عليّ يوما بعد آخر لأنه يتطلّب مني نوعا من التأليف الأدبيّ، مثلما تختارون أنتم عناوين للقصائد والقصص، عليّ أن أبتدع اسما للمرض الجديد».
«وكيف تسير الأمور في الوقت الحاضر معك؟». سألته، وكنت أرى في ذهني صورة لصديقي وهو يؤلف أسماء وعناوينَ لعاهات لا وجود لها.
«أخيرا توصّلت إلى ابتكار داء يكون عامّا للجميع، ولا يعرفه الجميع، بل إنهم لم يسمعوا به يوما».
«ما هو؟»
«التواء عصب الدماغ الأسفل مع تشنج عصب الدماغ الأعلى. عندما أخبر المتمارض به تدمع عيناه مباشرة، ويهزّ رأسه بالتأييد والشكر، ويكون لحبة الفيتامين عندها مفعول يشبه السحر الحلال».
معنى أن تكون حرّا
أمبرتو إيكو، اسم لامع، فهو فيلسوف وعالم في اللغة وباحث في القرون الوسطى – والوصف الأخير من الويكيبيديا- لكن شهرته قامت على روايته التي جاءت تحمل عنوانها الساحر؛ «اسم الوردة». ربما غضب مني الكثيرون لو قلت إن هذه الرواية ليست من الأدب العظيم، وألخّص أسبابي بأن الإيقاع فقير في الرواية، تلقى فيها فصلا أو أكثر من السرد الذي لا غبار عليه، ثم تعقبه أجزاء تبحث في علوم التاريخ أو الاجتماع أو الفلسفة، ويختلف مجرى الكلام بين صفحات الكتاب، فكأن القارئ يسير بينها في خطرٍ. لو أن المؤلف اختصر الرواية إلى ثلثها، أو ربعها، فالرواية مثل القصة، مثل القصيدة، أي إنها قطعة موسيقى، إذا غاب الإيقاع من اللحن، فما فائدة ما يتبقى؟ وهذا ليس بيت الكلام هنا. قصيدة لسعدي يوسف في ديوان طنجة عنوانها: «دير على الدانوب». يزور الشاعر الدير الذي تجري فيه الرواية، ويتمهّل في القاعة الجرداء التي كانت مكتبة، حيث تمت عملية القتل بالكتاب المنقوش بالذهب المُسَمّمِ. ثم يرقى الشاعرُ – سعدي يوسف – سلّما في الدير، ويهجسُ أنه أحد «الذين تآمروا كي يعرفوا اسم الوردة المسمومَ». هنا يختلط الأمر على شاعرنا، أو أنه شاء أن يختلف عليه المكان، ويعود به الزمان إلى عصر سقراط:
«سوف أكونُ حُرّاً
لحظةٌ تكفي!
هي الحرية العظمى، شقيقةُ ما يُسَمّى الموت».
هل مرّ سعدي بهذه التّجربة؟ أكاد أجزم بالقول نعم، ومن ذاق منا طعم الموت يعرف كيف تكون هذه اللحظة. «لحظة تكفي»، يؤكد الشاعر، ليس هناك من سبيل إذن لنيل الحريّة غير أن نسلك طريق الشّوكران. لحظة تكفي، وقد ذُقتُ أنا هذه اللحظة في أيام ثورة التسعين مرّات…
كاتب عراقي
“القدس العربي”