خلفه يصدح نشيد حماسي من نوافذ سيارته المركونة جانباً، يمجد ميليشيا “التشتنيك” الصربية المتطرفة والمعادية للأجانب شأن الفاشية والنازية. بين يديه سلاح كتبت عليه عبارات عديدة من بينها أسماء معارك جرت بين السلطنة العثمانية ودول أوروبية. وعبر كاميرا مثبتة فوق رأسه شاهده العالم يندفع إلى داخل مسجد النور في مدينة كرايست تشيرتش في نيوزيلندا، ويطلق النار عشوائياً باتجاه أطفال ونساء ورجال مصلين، في يوم الجمعة 15 آذار 2019. قبيل هذا الهجوم بيومين، ترك الأسترالي برينتون تارانت، المنتمي إلى اليمين المتطرف، بياناً مطولاً يبرر فيه فعلته، وقد عنونه بـ”الاستبدال الكبير”.
عاد هذا المصطلح للتداول بقوة في اليومين الماضيين، إثر مجزرة عنصرية راح ضحيتها 10 أشخاص معظمهم من الأميركيين “السود”، في مدينة بوفالو بنيويورك، مع عثور السلطات على بيان منسوب للجاني، لا يترك مجالاً للشك حول انتسابه إلى أولئك المتأثرين بنظرية “الاستبدال الكبير”.
فما قصة هذه النظرية، التي يستند إليها اليمين المتطرف الأوروبي والأميركي للنهوض بخطابه ليس العنصري فقط، بل والمسلح، ضد شعوب عدة بينهم المسلمون والأفارقة وقبلهم اليهود، بل وبعض الأوروبيين أنفسهم؟
فرنسا.. الظهور الحديث
في كلمة له خلال مؤتمر عام 2010 في فرنسا، استخدم الكاتب الفرنسي رونو كامو، مصطلح “الاستبدال الكبير” لأول مرة، في إشارة إلى مخاوفه من استبدال السكان “الأصليين” لفرنسا، بالمهاجرين من المسلمين والأفارقة. ثم تبعها عام 2011 بكتاب يتوسع في النظرية.
تقوم نظرية كامو على ترويج ثلاثة مخاوف رئيسية:
- الخوف من استبدال المجتمع الفرنسي بشعب ذي أصول أجنبية
- الخوف من سيطرة مسلمين متطرفين على المجتمع المسيحي ذي القيم العلمانية
- اتهام الحكومات الفرنسية بتشجيع هذا الاستبدال، عن طريق السماح للمسلمين بالتكاثر على الأراضي الفرنسية
ويرى كامو أن الخطر لا ينحصر في الإسلام فقط، لكنه يركز عليه كونه الكتلة الأكثر تنظيماً ومتانة، وفق مقابلة له على قناة الجزيرة.
ويصل الأمر بكامو إلى درجة استخدام مصطلحات تصف المهاجرين بأنهم “مستعمرون وغزاة”، ويصف الهجرة بالـ”فتح”، معتبراً إياها بمنزلة جريمة ضد الإنسانية، وإبادة جماعية للسكان الأصليين.
وبحسب النظرية فإن أوروبا تتعرض لاستعمار ديموغرافي من المسلمين والأفارقة، تكمن خطورته بكونه مستقرا ولا ينتهي، على عكس الاستعمار الأوروبي الذي انتهى برحيل المستعمر عن الأراضي التي احتلها، بحسب منطق كامو.
تأثير نظرية الاستبدال الكبير
أدين كامو بتهمة التحريض على الكراهية أو العنف، بقرار قضائي لمحكمة جنح باريس عام 2014، ولم تلق نظريته رواجا كبيرا في المجتمع الفرنسي، وبقيت محصورة في تجمعات اليمين المتطرف.
ومن بين أشهر المتأثرين بنظريته، السياسي الفرنسي إيريك زيمور، الذي شارك في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2022، ببرنامج مضمونه الرئيسي كراهية المسلمين.
كذلك روجت قناة “فوكس نيوز” الأميركية لنظرية الاستبدال الكبير، وهي من أشهر وسائل الإعلام الموالية لدونالد ترامب، الرئيس الأميركي السابق الذي حظر مواطني سبع دول مسلمة من دخول الأراضي الأميركية.
لكن الأثر الأكبر للنظرية تمثل بتوفير مبرر أخلاقي للمجرمين المتطرفين، شجعهم على اقتراف جرائمهم، وهو ما ينكره كامو بشدة، متبرئاً من القتلة، لكن السلطات أكدت تأثر مجرم مجزرة نيوزيلندا بأفكار كامو، وربطت بين العديد من الأعمال العدائية بحق الأجانب ونظرية الاستبدال الكبير.
جذور الاستبدال الكبير.. التناقضات والتطور التاريخي
على الرغم من الدور المهم الذي لعبه كامو في هذه النظرية، من حيث جمع الأفكار وصياغة الاسم، فإنها تضرب في جذورها عميقاً في التاريخ الأوروبي، إذ ظهرت لأول مرة في كتابات أبي القومية الفرنسية موريس باريه عام 1900، وفق ما رصد موقع تلفزيون سوريا من تصريحات باحثين متخصصين لموقع فرانس24.
في تلك الفترة كانت كراهية اليهود في أوروبا ما تزال شائعة، والأفكار المغلوطة عن النقاء العرقي ونظرية التطور الداروينية في أوجها، وبذلك صارت أفكار باريه التي تتحدث عن “شعب جديد يستولي على السلطة ويدمر وطننا” رائجة بشدة بين النازيين الألمان، وربما هذا ما يفسر سبب وصف زيمور للمسلمين بأنهم “اليهود الجدد”، والعجيب أن زيمور نفسه يهودي ومن أصول جزائرية.
وبعد هزيمة النازيين والفاشيين في الحرب العالمية الثانية، أعاد اليمين المتطرف صياغة خطابه ليتحول من العنصرية البيولوجية إلى العنصرية الثقافية، وهو الأساس الذي تقوم عليه نظرية الاستبدال الكبير اليوم، لكن في العمق بقيت تلك النظرة قائمة على العنصرية البيولوجية، التي تعتبر كل من ليس أبيض البشرة بمنزلة تهديد للحضارة الغربية.
لا تتوقف تناقضات النظرية وممارساتها عند هذا الحد، فالأسباب الثقافية التي تتذرع بها لتثبت تفوق العرق الأبيض على سواه من شعوب الأرض، تم استخدامها نفسها لنبذ موجات هجرة العمال الأوروبيين في نهايات القرن التاسع عشر، من إيطاليا والبرتغال وبولندا إلى فرنسا، إما بوصفهم جهلة أو متعصبين.
هل تنتهي مفارقات نظرية الاستبدال هنا؟ ليس بعد، فمن بين الفئات التي يروج زيمور لخطاب الكراهية ضدها هم المثليون، مع العلم أن كامو كان رمزاً للمثليين بعد إعلان مثليته في سبعينيات القرن العشرين. بكل بساطة، معتنقو هذه النظرية يتبنون خطاب كراهية الآخر حتى تجاه بعضهم بعضاً. والمتطرف الذي هاجم بالسلاح جامعاً للمسلمين أو حياً ذا أغلبية سوداء اليوم، سوف يخترع غداً عدوّاً جديد، يقتله على أنغام نشيد كراهية صادح.
“نلفزيون سوريا”