فلسفة يوكو أونو الساحرة والإيجابية لا تُقاوَم، إنها تحطم الحدود بين الفن والحياة، في حين لا يوجد فنان آخر يهتم بنا، لأنها تُسَلِّمنا الحقيقة في حقيبة – بإخلاص وروح دعابة، وتنير لنا قُوَّتَنا.
تستطيع رؤية فنها على السقف، على الأرض وفي السماء. يمكنك أن تخطو عليها، تحرقها، تصنع ثقباً في اللحظة وتترك ضوء المساء يمر.. إنها غير مرئية كالريح، الهمسة، الصراخ. إنها تَخيُّلُ شروق ألف شمس، وسرقة ضوء القمر على الماء، وسمكة ذهبية تسبح في السماء، إذا كنتَ تكرهها، فسوف تتعلم ألا تفعل ذلك. وإذا كنت تُحبُّها، فسوف تُغَنّي معها. سيتباطأ عقلك، وسترى الريح وتسمع الصمت، سترى المساحة السلبية بطريقة إيجابية، وسوف تتأثر بذكائها وحكمتها وعبقريتها ونزواتها. شراكة يوكو الأبدية مع جون لينون لم تنتهِ هي الأخرى، قصة حبهما وعملهما من أجل السلام يشملنا جميعاً. جسدها الرائع يُعَبِّر عن كل أفراح ومعاناة حياة غير عادية، عن أحلام، سماء، ابتسامات، حب، أمانٍ قريبة وبعيدة، تتنفس وترقص كل يوم. تستمع إلى الثلج، تُحصي الغيوم وتتخيَّل السلام.
في كتابها الأول (Grapefruit) الذي صدرعام 1964 بدأت يوكو أونو بتلاوة سيرتها الذاتية التي لا توثقها السجلات المدنيَّة: «وُلِدْتُ في عام الطير، جَمَعتُ السنوات في طفولتي المبكرة، أما في مراهقتي فجمعتُ الأعشاب البحرية، بعدها وُلِدْتُ كتابي هذا، ثم جمعتُ الحلزونات، الغيوم، حاويات القمامة، وتخّرجْتُ من مدارس في تلك الاختصاصات. أما جون لينون وولدنا (سين) فقد وُلِدا في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول واشتركا في برج الميزانَ!».
تبدو هذه الفلسفة الأرضية ذات البعد الكوني، جليَّةً في حوالي ثمانين عملاً استضافها متحف بيت الفن في زيوريخ في الفترة ما بين 04/03/2022 و29/5/2022.
تعتبر الأعمال المعروضة في المتحف رئيسيةً عن جميع فترات مسيرتها الفنية، مع التركيز بشكل خاص على السنوات الأولى. العرض ليس بأثر رجعي كلاسيكي؛ إنه يعيد إحياء أكثر من ستين عاماً من الإبداع الفني بصيغة حديثة بين قرنين. بفضل الدعم السخي للغاية الذي قدمته مؤسسة Swiss Re شريك متحف بيت الفن، بالإضافة إلى الشركاء الآخرين والمؤسسات الراعية لمشروع معرض أعمال يوكو أونو، والذين مكّنوا المتحف من التخطيط للمستقبل بثقة وفتحوا آفاقاً جديدةً للمساهمة في أنشطة ثقافية مميزة ليكونو قادرين على استقبال 300000 زائر يمرون من خلال أبوابه كل عام. وهكذا وقفت أعمال يوكو أونو في منتصف يومنا حرفياً، بالنظر إلى هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها العالم ويقرأ الجميع عبارتها: «أوقفوا الحرب، أعطوا السلام فرصة!».
عند دخول الزائر إلى المتحف سيصعد إلى الطابق الثالث، حيث تم تخصيص معظمه لذلك الكم الكبير من الأعمال المتنوعة وهو ما يعكس عمق التجربة الفنية، الفلسفية والأنثوية لليابانية الأمريكية.
يتمكن الزوار أيضاً، من المشاركة في ورشات عمل مترافقة مع عرض الأعمال الثمانين، خصوصاً عملها المميز (قُصَّ جزءاً) وهو ما يعني أن يقص المشاركون في ورشة العمل أجزاء من ألبسة قماشية أنثوية في رمزية تخرج الأنثى من (الفخ الذكوري) إلى عالمها الأنثوي الذي بدأت فيه المرأة في ستينيات القرن العشرين باستقلالها المادي وخروجها من (الثكنة المطبخية). يقول كريستوف بيكر أمين متحف بيت الفن في زيوريخ: «ذات يوم، وعندما عاد آباؤنا إلى المنزل مرتدين نظارات شمسية ذات عدسات زرقاء، ووفروا لنا الظروف للانضمام إلى برنامج «أعطِ السلام فرصة» كنا نعلم أن شيئا ما قد تغيَّر. قد يبدو الأمر منذ زمن بعيد، لكنه في الحقيقة كان بالأمس فقط» يضيف السيد بيكر: «الآن، وبعد أكثر من نصف قرن، نحن في زيوريخ نحتفل بيوكو أونو كأحد أهم الفنانين في يومنا هذا. لقد تطورت أعمالها بطريقة غير عادية على مدار أكثر من ستين عاماً: صورها ومقاطع الفيديو والتركيبات، خاصة براعة أدائها، جعلتها مشهورة في جميع أنحاء العالم، إنها ليست فقط نموذج يحتذي به عدد لا يحصى من الفنانين، لكنها توقظ أيضاً فضول وحماس جمهور عريض». لعل أهم إنجازات يوكو أونو هي إخراج جون لينون من أضواء النجومية في قفص البيتلز، إلى فضاء الإنسان المضيء، لتكتب معه فصول روايتها بين اللازم والمُتَعدّي في سفر تكوين السلام العالمي، في فيديو استلقت فيه وزوجها جون لينون في سرير لدلالته المتمثلة بالحب والسلام ثم النوم العميق، لأنه لا يمكن للنائم سوى أن يكون مسالماً: «لقد تأكدتُ أننا كنا أكثر حكمةً عندما كنا صغاراً، أما الآن فقد صرنا نشكُّ قليلاً بأنفسنا. لكن ذلك لن يحدث فالطفل في داخلنا سيُنقذنا». تكتب يوكو أونو.
عام 1969 في فندق «الملكة إليزابيث ـ مونتريال/ كندا وبينما كان كل من يوكو وجون يقدمان عملهما المهم «سرير السلام» تجيب يوكو أونو على سؤال أحد الصحافيين: «لا نريد للسلام أن يكون فكرة أو إجابة على الأسئلة، إنما نريده للجيل الشاب الذي نعتبره أكثر حكمة من جيلنا، والذي سينقله بدوره إلى الجيل الذي يليه فلا تتوقف الفكرة لتكون شعاراً أو شارة على قبعة أو قميص». بهذا الإيقاع في عباراتها المتسلسلة ترتل بصوت عالٍ، محاوِلةً تأريِضَ الحرب التي تنفخ فيها الأفواه من كل حدّب وصوب، فتقّدم أعمالها المميزة بطريقة تختلف عن تلك التي أرَّضتْ بها فرقة البيتلز غيتاراتها على المسرح، ويبدو ذلك واضحاً في الفيديوهات التي ترشقها البروجكتورات على جدران صالة العرض، فنراها جالسةَ بصمت على ركبتيها العاريتين بينما يقوم شخص بقص أجزاء من فستانها في رمزية تؤكد مقولتها «الرجال يدمِّرون، النساء يبدعنَ، الفنانون يعيدون القيمة».
وبما أن الفن لم يعد مجرد صورة على الحائط أو منحوتة على قاعدة، فقد حولت أعمالُها المتحفَ إلى مكانٍ للعيش ولقاءات بين الأشخاص الذين يحبون الحياة.
منذ بداية حياتها المهنية، اهتمت يوكو أونو بالقضايا الاجتماعية والسياسية، والتزمَتْ بالسلام في العالم، والقضية الأنثوية، حيث تلعب الأفكار دائماً دوراً مركزياً في عملها: أحيانًا تصيغها بطريقة مرحة وروح دعابة، وأحياناً بشكل جذري، ثم مرة أخرى بشكل شاعري. يتحول بعضها إلى أشياء بينما يُترَك البعض الآخر لتجيب عليه امتدادات وذبذبات الروح.
في مهرجان كان السينمائي عام 1971 تبرهن يوكو أونو على قدرة الفنان على تغيير القيم من خلال الأعمال الفنية كالتالي: «ما هي العلاقة بين العالَم والفنان؟ الكثير من الناس في هذه الأيام يعتقدون أن الفن قد مات. إنهم يتخلصون من الفنانين الذين يعرضون أعمالهم في المعارض لينغمسوا في عالم الفن التقليدي. لقد بدأ الفنانون يفقدون الثقة بأنفسهم». تتابع يوكو أونو «إنهم لا يعرفون في ما لو كانوا يقدمون شيئاً ما ذي قيمة في هذه الأيام، بينما العالم مشغول في مشاكله الاجتماعية المعقدة». وتتذكر حكاية يابانية: «زَوَّرَ رجل ورقة نقدية فئة 1000 ين ومشت تلك العملة المزورة في السوق، دون أي مشاكل، ثم ذهب إلى مدينة أخرى وقام بتصريف تلك العملة المُزوَّرة بالطريقة نفسها، لكنه لم يكن مكترثاً بزيادة دخله من ذاك التزوير، فقد فعل ذلك للتسلية. بالطبع تَصرَّف بالألفي ين ولم يقم بالتزوير مرةً أخرى. علمت الشرطة بأن في السوق عملة مزوَّرة وقد جُنَّ رجال الشرطة لأنهم لم يعثروا على المُزَوِّر فأعلن قسم الشرطة عن مكافأة قدرها ألفي ين. هنا بيت القصيد فالرجل الذي زوَّر المال (الألفي ين) غيَّر من قيمة المال من خلال تزويره المحدود!
بالطريقة ذاتها بالضبط فقد غيَّر الكثير من الفنانين العالم بعدما عَبَروا خلف المعارض وساهموا في تغيير العالم، مثالي على ذلك: آبي هوفمان، جيري روبن، بول كراسنير، وآخرون كثيرون. لقد نشروا شيئاً ما حسياً وفنياً بجوهر نهضوي عالٍ، حيث إنهم يُصَنَّفون اليوم كفنانين ورجال أعمال. الرسالة هنا هي أنهم في الوسط لأن مجتمعاتنا تتألف فقط من طبقتين الطبقة التي تتواصل والطبقة التي لا تتواصل. آمل أن تكون مجتمعاتنا طبقةً واحدة. لأن التواصل الجمعي يساوي السلام».
كتعبير عن الامتنان لنجاح معرضها في متحف الفن في زيوريخ وعلى صفحتها على تويتر، التي تحمل عنوان (تصوَّر السلام) تكتب يوكو أونو بتاريخ 26/05/2022 أي قبل نهاية معرضها بثلاثة أيام: «اشْكُرْ الأشخاص الذين فتحوا لكَ باباً.. هذا كل شيء».
بقيمها الفنية الإنسانية العالية، تصطف عبارات ومقاطع كثيرة مما كتبَتْهُ ووَقَّعتْ عليه يوكو أونو على جدران المعرض في تنوُّعِ إنساني فريد لينشد صدى صوتها الرقيق: أنا الشاهد الموسيقي الجميل في المخمل الأزرق لديفيد لينش، مستعمرة النمل التي تدرك قيمة العمل، الشجرة التي تريد العناق بكل أغصانها. أنا المتجددة كالرُسل، ودرجة السُلَّم العليا عندما يفيض الضوء، أنا ميلانين يلوِّن بشرة العالم، شهوة الشفاء إذا ما نزعتم عن جرحي آخر خيوط الضماد. أنا الفراغ الذي لا يقبل أن تملأه الاحتمالات أو المسافة اللامتساوية بين النجوم، أنا قوس الحاجب وسرعة الرمشة، هيولى جيوب هوائية تأسر طائرة، رغبة ترشق مطرها على عشب ينتظر، أنا صرير السرير عندما ترتجف اللحظة النبيلة، والريح التي تدلل الغصن والسنتيمترات المتناقصة بين الخطوة والطريق، أنا كرسي القش الصغير في المقهى القديم ولقطة قطة تحمل صغارها بفمها، وملقط خشبي يحمل القميص الأبيض المسترخي بسلام.
كاتب سوري
“القدس العربي”