في غمرة انشغالاته بإكراهات المعيش، يقطع الكائن -على سبيل النسيان – صلاته مع أغلب المفاهيم المحيلة على حقائق الوجود، خاصة حينما تكون حياته مؤطرة بدواليب تقنية متوحشة، لا تتوانى عن ممارسة إتلافها المنهجي والتدريجي، لمجموع ما يمتلكه من مقومات نقدية وتقويمية. وبالنظر للمكانة المتميزة التي يحظى بها الفيلسوف والشاعر، في تنبيه الكائن إلى ما يهدد حياته من أعطاب، فإنهما يعملان على تجاوز خلافاتهما التاريخية، مؤكدين أهمية حضورهما الفكري والإبداعي، أملا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، من بقايا ذاكرة المنجز الإنساني، التي بدا واضحا، أن شراسة التقنية تتهددها لا محالة بالمحو والنسيان.
يتعلق الأمر هنا إذن، بالحسم في من يتولى وصايته على الكائن، الذي يستشعر، ومنذ طفولة الكون، حاجته الملحة والجامحة، إلى مرشد/دليل، مهيأ لانتشاله من عنف دوامات الحيرة والتيه، الناتجة عما يتقاذفه تباعا، من هزات ورجات، روحية وفكرية. وهنا تحديدا، سيكون من الطبيعي أن يتحالف الغريمان، العتيقان والتقليديان «الشعر والفلسفة» بعد أن بلغا من العمر عتيه – كي لا نقول أرذله – من أجل التصدي لمخلوقة ميثولوجية مغناج، وحديثة العهد بالظهور، فضلا عن كونها معززة بما يكفي من مستلزمات الغواية والاستحواذ، التي تحمل اسما غامضا وملتبسا، هو «التقنية».
والملاحظ أن التحالف المشار إليه، هو عنوان قناعات فلسفية وشعرية، نادى وينادي بها أقطاب مهندسي الحداثة الكونية من مفكرين ومبدعين، بحثا عن خلاص يقي الإنسانية من قسوة اكتساح التقنية، التي من تداعياتها جفاف منابع المعنى، ونسيان الكائن لمقومات وجوده، وجوهر كينونته. فعلى ضوء هذا التحالف، أمسى الشعر مدعوا للتفاعل مع الاجتراحات المفاهيمية والفكرية التي يتميز بها الخطاب الفلسفي، بقدر ما أمسى هذا الأخير هو أيضا، مهيأ للاستضاءة بنور الشعر، من أجل تمزيق غشاوة الظلمة المحيطة بالعين الرائية.
ما يعني أن جمهورية أفلاطون، وحالما ألفت نفسها محاصرة بـ»ضائقة» التقنية، لم يعد لها من خيار آخر، سوى تطهير دستورها من البنود التبخيسية المنصوص عليها في حق الشعر، معلنة بذلك عن انطلاق مشروع رد الاعتبار، للملكات التخييلية والتعبيرية، التي يستعيد بها الكائن مكانته المركزية في الوجود، بتناغم مع تشغيله لملكاته الفكرية والعقلانية.
لكن وقبل الإمعان في تحميل التقنية مسؤولية إجهازها على جوهر الكينونة، ألا يمكن القول إننا في حالة تأملنا لما هي بصدد نسجه من علاقات متشابكة ومعقدة مع العالم الطبيعي المؤطر بغيبياته وقداساته الميتافيزيقية، فسنقتنع حالا بأنها المبرر الأصلي لظهور الموجودات التي لا يكتمل بناؤها، ولا تتوافر شروط اشتغالها إلا عبر إخضاعها لقوانين تقنية، متميزة بدقتها وصرامتها، بعيدا عن تدخل أي صدفة محتملة، كما هو الشأن بالنسبة لقوانين الشروق والغروب، وتتالي الفصول، واستراتيجيات العقم والخصوبة بمجموع ما يتخللها من تجليات البقاء والعدم، الممسكة بناصية الكائنات. ففي خلفيات هذه الظواهر، تكمن أنماط متعالية من التقنيات و»التطبيقات» التي كانت وستظل النموذج المثالي، الذي تطمح المعرفة إلى «محاكاته» بالاستفادة من معطياته في تدبيرها لشؤون الحياة البشرية. ومن المؤكد أن تساؤلنا عن الخلفية الكامنة وراء كل الصيغ، التي تظهر بها الأشكال الطبيعية، لن يستدعي سوى جواب صريح ومحدد، مفاده حضور تقنية عملية، يعود لها الفضل في إنجاز الصيغ المعنية بالسؤال.
بهذا المعنى سنعتبر التقنية – وطبعا من منظورها الميتافيزيقي ـ بمثابة كائن جوهري وأساسي، توكل إليه مهمة البناء والإنشاء الطبيعي للكون، حتى قبل أن يحظى الإنسان بهبة حضوره هنا على وجه البسيطة. ولعلنا بهذا التأويل المغرض والمبيت، سنكف مؤقتا عن اعتبار التقنية وليدة العلم التجريبي، الذي يعود له الفضل في ظهور العصور الحديثة، إذ بقليل من التسامح النظري، يمكن تقصي معالم حضورها في الفضاءات البدائية بأزمنتها القديمة والراهنة. كما بقليل من البداهة، يمكن ملامسة حضورها الباهر، في منجزات الحضارات الغابرة، والمتميزة باختراعاتها العجائبية الأكثر إشكالا، أسوة بمنجز الحضارات الفرعونية، وغيرها من الحضارات، التي تمكنت فيها التقنية من تقمص دلالات وأبعاد مثقلة بحمولتها الأسطورية. والهدف من إشارتنا التلميحية إلى هذه المحطات المفصلية من تاريخ التقنية، هو الإشعار بالطفرات التي اجتازتها خلال مسيرتها الطويلة، والموحية من فرط جموحها بانفصالها عن ماضيها، لتأخذ شكل كائن حديث العهد بالولادة.
مشروعية الحقيقة العلمية تقترن أساسا بصلاحيتها الظرفية، ما يفسر دلالة تطورها ودلالة مضاعفتها لإشعاعها بقوة قانون الامتداد.
إنها بهذا المعنى، عبارة عن مخلوقة عجائبية، عمرها الفعلي ملايين السنين، فيما لا يتجاوز من حيث ظاهره حدود القرنين. ومن المؤكد أن قدرتها الفائقة في التنكيل بالكائن واستعباده، تعود إلى هذه الازدواجية الهجينة والمتواطئة. أيضا إلى جانب ذلك، يمكن إضافة حركية التأطير النظري المواكب لسيرورتها، التي تجعل منها النموذج المثالي لمفهوم الحقيقة العلمية الموسومة بأقصى متطلبات البعد «الموضوعي». وهو بالمناسبة، بعد/مفهوم مثقل بيقين إجرائي، لا يسمح لذرة واحدة من الشك بالتسرب إلى قوانينه. ما حوله في نظرنا إلى سلطة ديكتاتورية مريبة، تمارس حجرها المحكم على حرية التأويل، ذلك أن مقولة البعد الموضوعي التي من شأنها الفصل بين الرؤية الذاتية لأشياء العام، وما يعتبر رؤية «عقلانية» و»علمية» يتحول خلسة، إلى محجة لا يأتيها الباطل، لا من بين يديها ولا من خلفها. علما بأن مسلمة «النسبية، قطعت مع ديكتاتورية الحقيقة العلمية، التي لا تستمد «موضوعيتها» هي أيضا إلا من واقع صلاحيتها المؤقتة والظرفية، باعتبار أن حقيقة الشيء، هي رهينة بالسياق الموجودة فيه، بانتظار حدوث ما يفندها، أو يصوب ما يعتريها من أخطاء.
مشروعية الحقيقة العلمية تقترن أساسا بصلاحيتها الظرفية، ما يفسر دلالة تطورها ودلالة مضاعفتها لإشعاعها بقوة قانون الامتداد. ومن المؤكد أن المبالغة في تضخيم سلطة الحقيقة العلمية، لا يمكن إلا أن ينتزعها من سياق تناميها الطبيعي، بوصفه سياقا بشريا، يعتمد على مراكمة إنجازاته في ظل ما يراكمه من خبرات ومعارف. وتجاهل هذا البعد الإنساني الوثيق الصلة بتجدد آليات البحث والتجريب، يقحم الحقائق العلمية في مدارات قداسة ميتافيزيقية تفرغها من دلالاتها «الموضوعية». مع العلم أن لكل زمن ميتافيزيقاه التي يستقل بها بانسجام مع خصوصية شروطه الفكرية والعملية. وبالتالي، ألا يمكن اعتبار الفلسفة المنشغلة بالبدء الشعري، أو «الوجود المنفتح «، بتعبير مارتن هيدغر، والمتحاملة على هوية الزمن التقني، محض فلسفة نوستالجية، مسكونة باستعادة المرجعيات البائدة، المحيل على مخمل الأزمنة المنسية؟ والمسكونة أيضا بتنشيطها للوعي الشقي الذي يجد ضالته في متعة توحده بمحنة اغتراب الروح، وفقدان المعنى؟ علما أن الإمعان في تلبس حالة الاغتراب، هو بمثابة الرافد الفعلي للخطاب الفلسفي والشعري. وبالتالي، فإنه «تلبس» من شأنه المراهنة على ديمومة حالة اللاطمأنينة المولدة حتما لشعرية القول، ولإشكالية السؤال. أيضا، ألا يمكن اعتبار قطيعة زمن الشعر والفلسفة مع الزمن التقني، هي تعبير ضمني عن سوء تمثلهما لقوانينه الجديدة؟ والاقتصار بدل ذلك، على توظيف معايير مستمدة من عمق الميتافيزيقا القديمة والجماليات التقليدية؟
ثم أليست الفلسفة والشعر، مدعوين لاختراق حجاب التقنية، الذي يحول دون استيعابهما لما يتعرض له الوجود الإنساني والطبيعي من انهيارات جحيمية ومتتالية قوامها التلذذ الهمجي، بتفعيل ناموس القتل في كل الاتجاهات وبالذرائع كافة؟ ما يعني أن الدعوة إلى الاختراق حجاب التقنية، هو دعوة لمساءلتها شعريا وفلسفيا، أملا في إبداع شعر آخر، وفلسفة مغايرة، لا علاقة لهما بماضيهما؟
شاعر وكاتب من المغرب
“القدس العربي”