سرّ من أسرار الكلام أن لا أحد يملي عليك ما تقول، فأنت حرّ في تخير الألفاظ للمعاني التي تراها مناسبة. هذا الرأي يقف على طرفي نقيض مع ما يعرف بالجَبْر اللغوي، الذي يَعني ظأنك تكون وأنت تتكلّم مسيّرا لأنك ستستعمل القواعد والمناويل اللغوية، التي لا تستطيع أن تخرج عليها إذ هي شِرعة لا تستنسخ وقانون سارٍ على الجميع. فأنت مقيد في العربية الفصيحة بأن تستعمل الجملة الإسمية أو الفعلية، وأن يكون المبتدأ والخبر في الأولى والفاعل في الثانية مرفوعين، وأنت مجبور على أن تسمّي أداة الكتابة (قلما) أو غيره من الأسماء التي ستكون له ذات مرّة، وليس من حقك أن تبتدع له اسما من نِحلتك؛ وأنت مجبر على أن تتقيد فوق هذا كله بالمقامات المختلفة التي تنتج فيها الكلام فلا شكّ أنّهم علموك بطريقة أو بأخرى أنّ لكلّ مقام مقالا.
لكن رغم هذا الجبر اللغوي الكثير، يمكن للإنسان أن يسبح بالكلام أشكالا من السباحة يختارها، ويمكن له وهو في هذه الدائرة من الجبر أن يختار العبارات والأبنية وطرقا من نظمها، إن كانت لا تخرج عن القيود فإنّها تختار ما شاء لها من الألوان والأشكال. وفي مجتمعاتنا اليوم يصنّف البشر حسب لطفهم في الكلام وعجرفتهم، وحسب جفافهم أو سخاء ماء لغتهم، فهناك من تشرب من كلامه فلا تَرْوى، وهناك من يسقيك علقما من الكلام وحنظلا من الخطاب وهو يحدّثك.
تحدّث العرب القدامى عن الكياسة، وجفاها مستعملو اللغة الفصيحة اليوم حتى باتت وكأنّها عبارة نادرة وعوّضتها عبارات مثل التعقّل والحكمة وحسن التدبير وغيرها من العبارات الدالة على استعمال العقل في القول، أو اللباقة فيه، أو الدالة على السلوك الذي يفضي إلى حكمة، وهي عبارات تقابل عادة الحمق والغباء والبلاهة. ذلك أنّ الكياسة تعني جملة من المعاني تجتمع في ثلاثة هي الظرف والذكاء واللباقة، ومعلوم أنّ الظرف واللباقة أشياء تابعة للقول لا يمكن أن تتأسس على غيره، وبناء على ذلك فإنّ الكياسة شأن لغويّ لا من جهة اعتماده على القول وحسب، بل أيضا من جهة أنك ترى الكيِّس أوّل ما تراه وتختبره أوّل ما تختبره بالقول قبل العمل.
في لسان العرب ما يدلّ على أنّ الكياسة شيء مورّث، وعلى الغالب هي من تراث الأمّ أكثر من أن تكون تراثا من جهة الأب، فقد قال الشاعر رافع بن هُريم (فلو كنتم لِمُكْيِسَةٍ أَكَاسَتْ * وكيْسُ الأمّ يُعرف في البنينا// لكنّ أمَّكم حمُقَتْ فجِئتم * غِثاثا ما نرى فيكم سمينا) فنسب الكياسة والحمق للأمّ كأنّها هي مصدر التربية السليمة أو السقيمة دون غيرها. وفي اللغة امرأة مِكْيَاسٌ أي تلدُ الأكياسَ (لسان العرب، 6/ 201) وهذا يؤيّد أنّ الكياسة سياسة للصبيان على أيدي أمهاتهم، سياسة لغويّة بأن تعلّمهم الأدب والظرافة واللباقة، وهي إذ تعلمهم حسن القول إنّما ترسّخ فيهم العاقليّة التي يشحذها الكلام.
أنّ الكياسة وإن كانت خلّة عقليّة في الإنسان يصنعها ويربي بها غيرها، فإنّ هذه الكياسة لا بدّ لها أن تبنى باللغة بناء يبدأ من تهذيب المنطق ويصل إلى بناء متين للكون لا يسعد فقط، بل قد يشقي لأنّه يؤسس للمعقول وكل معقول مشقٍ.
الكياسة اللغوية لا علاقة لها بالقدرة البلاغية، ولا بالفصاحة ولا بحسن الخطابة ولا هي مرتبطة بالكلام الراقي دون غيره من الكلام اليوميّ. الكياسة اللغوية أن تبني بالكلام عالما أو واقعة أو حدثا بناء يشعر عند تلقّيه بانفعال موجب، لأنّه عادة ما يقارن بطريقة من القول مألوفة طرازية، لا أنس فيها ولا وحشة. حين يسألك صديق في الهاتف هل أنت في المنزل وتجيبه: يكون بيتي أسعد لو رافقتني، فأنت قد تكيّست في الجواب وعدلت عن الجواب المباشر إلى ما بعده، وأصدرت دعوة لطيفة لصديقك كياستها ليس في أسلوبها فهي قد بنيت بألفاظ عادية، بل كياستها في أنّها بنت كونا يؤنس السائل ويشعره بالسعادة، لأن اللغة قفزت على الجواب العادي، وأسست للدعوة والضيافة بشيء من العدول الجمالي الذي يبني كونا مفاجئا يسعد من سأل عن شيء ووجد أفضل منه.
ومن الكياسة اللغوية أن تبني كونا عميقا لا يثير السعادة بقدر ما يثير التفكر والتدبر، ففي لاميّة العرب يقول الشنفرى في الطالع (أقيموا بني أمي صدور مطيّكم * فإنّي إلى قوم سواكم لأميل). أوّل مظاهر الكياسة التي تحيل على تدبر هو مخاطبة أبناء قبيلته بـ(بني أمّي) في الأمر كياسة، كيفما تدبرت النسبة إلى القبيلة بما هي أمّ رمز ومجمع للأنساب، أو إلى الأم الفعلية إن كان يخاطب أخواله فلا ينسبها إليهم، بل ينسبهم إليها. بني أمّي على بساطتها مصدر لبناء الكون بردّ النسب إلى الأمّ، لا شرعا، بل ابتداعا وإعادة تأسيس للكون. الصعلكة تمرد على بناء للكون قديم لا يوافق عليه الصعلوك فيعيد توزيع المفردات توزيعا جديدا لا تمرّد فيه بل فيه كياسة في التخريج وعمق في إعادة بناء الكون على عناصر لا يمكن أن تقبل بالرفض ضرورة.
لكنّا نرى الكياسة من جانب آخر له علاقة بما ذكرناه من ارتباط التنشئة الحكيمة بالأمّ الأمّ الكيّسة، هي التي تعدّ أبناءها للحرب، وأن يستعدوا في كل وقت للإغارة. في الحياة التي يغير فيها الناس بعضهم على بعض لا تقتضي الكياسة أن تكون مسالما، بل أن تكون مستعدا استعدادا أبديا للحرب. هذا الضرب من الكياسة أو التعقل الأمومي هو الذي دفع الشنفرى إلى أن ينصح قومه بما نصح، لأنّه يعتقد أنّه ابن لأمّ كيّسة، وأنّه لم ينس تربيتها السليمة، وأنّه وإن كسّر الأعراف بأن طلب من غير أن يكون قائدا أو زعيما من قبيلته ما يطلبه القادة من استعداد للحرب، فلأنّه لم ينس الكياسة التي تربى عليها في حضن الأمّ الكيّسة. الصعلكة ليست أن تخرج على النواميس التي لا تعترف إلاّ بالزعيم، الصعلكة هي أن تذكر القبيلة وأفرادها بما ربتهم عليه الأمّ الكيسة، هي بناء للكون الحالي على استراتيجيا الأمّ الحكيمة استراتيجيا الحرب التي تقول: إذا كان العدوّ راصدا فالطمأنينة حمق على حدّ عبارة ابن عبد ربّه. ومن جهة أخرى، فإنّ البحث عن قبيلة ثانية هو بحث عن القبيلة الأصلية التي يكون فيها الذود عن الحمى قيمة طبيعية، تترجم عنها حيوانات لا تموت إلا بعد أن تصارع حيوانات من نوع السيد العملّس (الذئب القوي السريع) والأرقط الزهلول (النمر الأملس) والعرفاء الجيأل (الضبع في معناه القيمي الإيجابي). هذا المعنى لم يعبر عنه الشنفرى فقط، بل إنّا لنجده في شعر النمر بن تولب وهو يتحدث عن أخواله فيقول (إذا كنت في سعد وأمُّك منهم * غريبا فلا يغررك خالك من سعد) فليس الانتساب مجرّد حبل نسبة، بل هو حبل قيمة تشدّه الأمّ في أوّل أحوال فَتْله وغزله شدا قويا بالتربية على الكياسة، وعلى الأبناء من بعدها أن يقووا ذلك الفتل بالقيمة المناسبة للعصر.
ومن عجيب ما وجدناه في هذا المعنى أن يلقب الغدر بكيسان أو بابن كيسان جاء في لسان العرب: «الغدر يكنى أبا كيسان» (لسان العرب، 6/ 201) ولا ندري ما العلاقة بين الغدر والكياسة، فلعل الغدر ما سمي بذاك إلاّ لأنّه رديف للدهاء وإعمال العقل في سياق الأذية. لا ندري أيّ المعاني أصل وأيّها الذي سافر بعيدا عنه، هل الغدر هو من بنات الكياسة العاقلة أم أنّ الكياسة الظريفة الحكيمة هي التي جاءت لتمسح ما لمعاني الغدر من قبح نشأ نشأة عقلية في الذود عن الحوض ومائه.
خلاصة الأمر في هذا، أنّ الكياسة وإن كانت خلّة عقليّة في الإنسان يصنعها ويربي بها غيرها، فإنّ هذه الكياسة لا بدّ لها أن تبنى باللغة بناء يبدأ من تهذيب المنطق ويصل إلى بناء متين للكون لا يسعد فقط، بل قد يشقي لأنّه يؤسس للمعقول وكل معقول مشقٍ.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
“القدس العربي”