بـ “أقوى صورة ممكنة”! تلك هي العبارة التي اختيرت لوصف المنعطف الذي مثلته زيارة ولي العهد السعودي لتركيا. ورغم أن أحداً لم يحبس أنفاسه عند لقاء الرئيس أردوغان، بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في أنقرة، إذ سبق أن التقى الرجلان في المملكة مراراً، لكن هذا المستوى من نجاح الجهد الدبلوماسي الذي ضمن الصعود لتحقيق هذا الانعطاف، كان مفاجئاً. يفتح هذا المنعطف الباب لإعادة ترتيب التوازنات الإقليمية، ولتصبح الزيارة توكيداً بـ “أقوى صورة ممكنة” لعمق التبدل.
إذ لم يعد الحديث يدور حول إحياء العلاقات بين البلدين فحسب، بل يجري الحديث عن تغيير في خريطة اللعبة في المنطقة. وبالطبع سيسيل الكثير من الحبر عن الأبعاد الاقتصادية للزيارة، لكن سيرة الاقتصاد لا تكفي على الإطلاق لفهم جوهر القصة!
إذ تبهت أنباء الاقتصاد والايديولوجيا في خضم التبدلات العميقة في المنطقة والعالم، تصبح الجيو استراتيجيا بيت القصيد. وفي مناخ مكفهر بالأنباء السيئة، تأتي هذه الزيارة كبريق أمل نادر، تعطشت له المنطقة طويلاً.
حجتي في أهمية الزيارة، إنها تتم في لحظة زخم واضطراب منقطع النظير يشير لعمق انعدام الوزن، وخلل التوازنات في الشرق الأوسط. إذ لا تكاد طائرات الدبلوماسيين والقادة في الإقليم تهدأ ليوم واحد! الكثير منها يطير بصمت، والبعض يطير بشيء من الضجيج. لكنها تحوم كالنحل لتغزل خيوطاً جديدة، وتبني جسوراً لم تكن مرئية او متوقعة. لم تكن قمة العلا لدول الخليج ومن ثم جولة ولي العهد السعودي إلا من ارهاصاتها الأولى، ولم تكن المناورات العسكرية المشتركة بين دول الخليج والولايات المتحدة وإسرائيل إلا ملامح لهذا الانعطاف، لتعقبها رحلات تنسج روابط جديدة بين مختلف عواصم الإقليم من أنقرة إلى الرياض إلى القاهرة والقدس إلى بغداد وعمان. ومن لقاء العقبة بين الأردن ومصر وإسرائيل إلى تصاعد الحديث عن تحالف شرق أوسطي – عربي – إسرائيلي، إلى مغزى الفرصة الموقتة التي أتاحها التحالف العربي للتهدئة في اليمن، إلى انفراج العلاقات التركية – الإسرائيلية، إلى العديد من المبادرات بين مصر وتركيا إلى الزيارة اللاحقة لأمير قطر لمصر، إلى الزيارة اللاحقة لرئيس الوزراء العراقي للرياض وطهران… كل ذلك غيض من فيض ما يطفو على السطح من مدارات المعركة الدبلوماسية. لذلك أسمح لنفسي أن أوكد أن هذه الزيارة جاءت كمن يضرب في الأرض محوراً، لتدور من حوله المدارات.
تدرك الرياض وأنقرة أن استحقاقات جديدة تقرع أبواب المنطقة، حيث تمتد قائمة الكوارث المتراكبة يوماً بعد يوم، لتهدد بفقدان المنطقة لتوازنها الداخلي. إذ ينتقل بشكل متسارع التمترس من المناخ الدولي إلى الإقليم، ويرافقه التخلخل الدولي العام، وتتداعى التوافقات الدولية حول الهدوء الهش في الشرق الأوسط، إضافة لما يفتحه احتمال انهيار محادثات الاتفاق النووي مع إيران من سيناريوات وتداعيات لا محدودة.
لكن ما يزيد الأمر خطراً، هو آخر ما حرر! إذ يحذر كل ذي خبرة في الاقتصاد والسكانيات من دورة وشيكة للحراك الاجتماعي، بسبب أزمة الحوكمة، وأزمة الغذاء المستجدة إلخ. وإذ يفتح كل ذلك المنطقة، على شتى المخاطر، يصبح وجود وتد تستند اليه في العواصف المقبلة امراً حيوياً.
ولعله من علامات تصلب الشرايين، أن تستمر إيران في التعاطي مع هذه الكوارث كفرص لالتهام المزيد. إنه وهم عقائدي عتيق أصبح خطراً على أصحابه. وفي حين فشلت إيران في العقدين الماضيين في ملء الفراغ واستبداله بمنظومة مستقرة، يدرك القليلون في طهران، أن المخاطر المقبلة لن تفوت إيران ذاتها هذه المرة، بل لعلها تكون دائرتها الجديدة.
اتخذت تركيا والمملكة العربية السعودية، في العقدين الماضيين، خيارات استراتيجية متباعدة، أثرت فيها التوجهات الأيديولوجية، وساهمت بشكل كبير في خلق هذا الفراغ الإقليمي الخطر. هذا في حين لم تكن تركيا ولا المملكة العربية السعودية، أصلاً بحاجة للأيديولوجيا لتشكيل دورهما العالمي والإقليمي. فكلاهما، في آخر المطاف، ورغم الفروق البنيوية الكبيرة، تحتلان وتتكاملان في موقعهما الحضاري الإقليمي بالاستناد، أولاً وأخيراً، إلى مشروع وطني وموقع جيو-اقتصادي عالمي وإقليمي لا يضاهى. لذلك يمكن أن ندعي أن هذه الشراكة تعيد تموضع مختلف الجسور والركائز في المنطقة.
ومن ضمن ما يضيف لأهمية القمة حقيقة أن بايدن يشد الرحال للإقليم. إنه يرغب بأن تؤسس زيارته لعلاقة بلاده مع الشرق الأوسط، كجزء من تصور الأميركي لتداعي نظام القطب الواحد. نعم، لم تعد للولايات المتحدة مصلحة في أن تكون الضامن المطلق لهذا النظام، وليست لديها الرغبة طالما أنه أصبح ساحة لتطفل منافسيها، لتنخرط الولايات المتحدة من جديد وبمبادرة منها في عصر من الصراع بين عوالم متعددة الأقطاب، تتحوصل فيه الجغرافيا السياسية، في صراع متجدد على حق البقاء.
لندرك أن هذه المقاربات الاستراتيجية الاميركية لم تكن يوماً رهناً لا بترامب ولا ببايدن اللذين لا يفترقان إلا في الأداء. فتلك استراتيجيات تمليها المصالح العليا للأمة الأميركية التي تديرها دولة المؤسسات.
لكن بايدن، وعلى عكس ما يمكن أن يتوقع البعض، لن يجد هذه المرة اقليماً طيعاً ولا واهناً. لن يجد هلاماً بلا عظام ولا هياكل، بل سيجد مناخاً ندياً عارفاً، بقدر ما هو معاتب وودي. مناخ متحفظ، بقدر ما هو جدي في الشراكة والمسؤولية المتبادلة. فليست القضية قضية نفط ولا مال. وهنا تكمن عبرة إغلاق ثغرة العلاقات السعودية التركية بـ”أقوى صورة ممكنة”.
تدرك المنطقة أن الولايات المتحدة لم تعد مرجعاً في إدارة المخاطر في الإقليم، بل لعلها لم تعد حتى وسيط سلام إقليمي. ومن جهتها لم تعد روسيا قادرة أن تلعب دور وسيط القوة، لضبط الجمر تحت التراب في ظل تفاهمات دولية مبطنة. يتم إخراج روسيا من سياقات التوافقات الدولية التي أنتجت يالطا ومن بعدها في بودابست وما تلاها. لذلك آن لأهل الدار الأخذ بزمامهم، ولا تنتظر تركيا ولا المملكة العربية السعودية نضج العقل الاستراتيجي الأميركي، ولا تفويض روسيا بدور شرطي الإقليم. بل تعيد تشكيل العمران الاستراتيجي من خلال مبادرات إقليمية ذاتية حثيثة.
هذا الواقع الجديد، فيه من التحديات أكثر بكثير مما فيه من المشاريع الواعدة! ولا يزال البلدان يحتاجان لجهد كبير جداً لإعادة رسم الصورة الاستراتيجية للإقليم وتحصينه بناء على رؤيتهما المشتركة. فالأمم، كما يقول أرنولد تونبي، “تصنعها أفعالها في استجابتها للتحديات”.
“النهار العربي”