حمل تحقيق استقصائي لشبكة CNN اتهامات واضحة وصريحة إلى مسؤولين في قمة هرم الدولة السودانية، بالتلاعب بمقدرات البلاد وتعريض أمنها الاقتصادي للخطر.
ويشير التقرير إلى أن روسيا تواطأت مع قيادات عسكرية سودانية لتهريب ما تساوي قيمته مليارات الدولارات من الذهب، نظير دعم النظام العسكري في السودان.
وخلص إلى أن قيمة الذهب الذي يُستخرج من أرض السودان ويهرب إلى روسيا تفوق 13 مليار دولار سنوياً، عبر شركات روسية تعمل في التنقيب وإنتاج الذهب الذي يقلع من مهابط الطائرات في قلب الصحراء ويخرج من دون المرور بالإجراءات السيادية والرسمية من بنك السودان المركزي.
وأشار التقرير إلى أن هذا الذهب يموّل المجهود الحربي لروسيا، في وقت تجتهد الولايات المتحدة والدول الأوروبية في محاصرة روسيا اقتصادياً، وتكبيل قدرتها على الاستمرار في تمويل فاتورة الحرب الباهظة.
وأحدث التقرير هزة عنيفة في دوائر اتخاذ القرار السودانية، فسارع مدير الشركة السودانية للمعادن والموارد الطبيعية مبارك أردول إلى التشكيك في التقرير والمعلومات الواردة فيه، وقال في تغريدة له: “التقرير فقير وضعيف وغير دقيق في بعضه، وأرقامه مضخمة بل خيالية”، ورأى أنه يأتي “في إطار محاولات لإقحام السودان بما يدور بين روسيا والغرب، وهذه لن تجدي ولم ينجحوا في حبكها جيداً”.
وفي السياق، ادعت الشركة وجهاز الأمن والمخابرات الوطني على الصحافية نعمة الباقر التي أعدّت التقرير لشبكة CNN تحت بند جرائم المعلوماتية، ومن أبرز التهم تشويه سمعة الشركة ونشر معلومات كاذبة ومضللة، كما نسب إليها جهاز المخابرات تهمة التخابر مع الخارج والارتماء في حضن العدو ونشر معلومات تضر بالأمن الوطني والوفاق السياسي وتهديد علاقات السودان بجيرانه.
إلى ذلك، أكد المحلل السياسي بخاري بشير أن ما يثار حول تهريب ذهب السودان، سواء أكان تهريباً تشارك فيه شركات ومنظمات ودول أم تهريباً فردياً، فيه شيء من الصحة، ولكن الأرقام المتناولة في هذا الجانب تجافي الحقيقة، في رأيه.
مبالغة؟
وقال لـ”النهار العربي”: “صحيح أن هناك شركات أجنبية متعددة عاملة في مجال تعدين الذهب، وبينها شركات روسية، لكن السؤال: كم هو إنتاج هذه الشركات من معدن الذهب؟”، ويجيب بشير عن التساؤل قائلاً: “جاء في آخر تقرير للشركة السودانية للموارد المعدنية أن الذهب المنتج في 2021 لم يتجاوز 16 طناً، وهذا رقم متواضع إزاء ما يتم تناوله في الإعلام بشأن التهريب”.
وأضاف: “أورد تقرير CNN الاستقصائي أرقاماً وصفها عدد من خبراء القطاع الاقتصادي بأنها غير حقيقية مقارنة بإنتاج الذهب، أيضاً الحديث الإعلامي عن تهريب الذهب يتجه لكي يزرع صورة غير حقيقية في ذهن المتلقي، ويمنح انطباعاً كأنما هذا الذهب سُرق بالكامل. لكن المعروف في هذا القطاع، أن المنتج تأخذ منه الدولة نسبة ضريبة، وتدفع الشركات كل التزاماتها أثناء عملية التعدين، ومعنى كلمة تهريب أن الذهب عندما يعد للتصدير هناك إجراءات متبعة ورسوم واجبة السداد كصكوك حكومية. المهرب يتجاوز هذه الإجراءات وتلك الرسوم والصكوك، لكن أصل الذهب هو ملك له بحكم قوانين التعدين التي تكفل حق المعدن وحق الدولة على السواء”.
ولفت بشير إلى أن كلمة تهريب تعني أن الجهة المهربة أخرجت ذهبها إلى خارج البلاد، ولم تقم بسداد ما عليها من التزامات، و”فوّتت على الدولة فرصة التقارير الإحصائية الضرورية في مثل هذه الممارسات”.
مكاسب متبادلة
أما في ما يخص الاتهامات المستمرة بشأن التعاون مع روسيا، وأنها وجدت تسهيلات من بعض النافذين والعسكرين، كالعلاقة بينها وبين قيادة قوات الدعم السريع وما يجري بخصوص الاتهامات المتبادلة بوجود شركة “فاغنر” الأمنية الروسية، فقال بشير: “ربما كان الاتهام صحيحاً، وكلا الطرفين يحققان مكاسب، لكن هذه المكاسب ليست كما يذكرها الإعلام، هناك وجود لشركات تعدين روسية، وربما يكون وجود فاغنر الأمنية لحماية هذا العمل، وأيضاً قد يتكسب العسكريون من هذه العلاقة بالتدريب وتبادل الخبرات وغير ذلك”.
وأضاف: “هذه العلاقة بين الدب الروسي والعسكريين السودانيين، قطعاً هي غير مريحة للدول الغربية، وللولايات المتحدة على وجه الخصوص، لأنها تمنح فرصاً للتمدد الروسي في أفريقيا، وهذا ما يخشاه الغرب، لذلك يأتي التناول الإعلامي غالباً بحالة من التضخيم الافتراضية لقطع الطريق أمام هذه العلاقة. أيضاً الحرب الروسية – الأوكرانية ألقت بظلالها وتزايدت نسبة المخاوف عند الغربيين إزاء تنامي التمدد الروسي في أفريقيا، وأدت كذلك إلى ارتفاع نسبة تناول علاقة الدعم السريع بروسيا في الإعلام الغربي”.
لتحقيق شفاف
وختم بشير حديثه إلى “النهار العربي” بالقول: “إن كثرة الحديث عن تهريب معدن الذهب من السودان تستدعي أن تقوم الجهات المسؤولة بدورها لحماية الاقتصاد، وأول الخطوات إجراء تحقيق شفاف يكشف بدقة أسرار تهريب الذهب، وأن تعلن المعلومات بشفافية عالية للرأي العام، ولا بد للدولة أولاً من التيقن من مدى نزاهة المسؤولين السودانيين في المؤسسات العسكرية والمدنية على حماية الاقتصاد”.
ويرى مراقبون أن التقرير سيكون بداية لفتح بوابة الجحيم على العسكريين في السودان، وستكون له ردود فعل دولية وقضايا لها إثباتات لدى منظمات حقوق الإنسان التي طالما أشارت إلى أن الذهب السوداني يتم تهريبه لمصلحة حروب إقليمية لا يستفيد منها السودان، وأن المجلس العسكري انقلب على الحكم المدني خوفاً من كشف هذا الفساد وغيره مما يدور في الخفاء بعيداً من أعين المواطن.
“النهار العربي”