اتسمت فتوى الإمام الخميني بإهدار دم الأديب البريطاني- الهندي سلمان رشدي بخصائص لافتة، قد تجعلها نصاً تأسيسياً لنمط جديد من الممارسة السياسية العالمية: يأمر الإمام «المسلمين» الذين لم يحدد جنسيتهم أو طائفتهم أو انتماءهم، بقتل رشدي، في أي مكان أو زمان متاح لهم، لأنه أساء لرموز وأفكار دينية.
أمر العمليات هذا، رغم كونه صادراً عن شخصية تحكم بلداً واسعاً وكثير الإمكانيات، لا يرتبط بجهاز أو مؤسسة، ولا يمكن استئنافه أو الطعن به، ولا يسقط بالتقادم. إنه أمر فوق مؤسساتي، فوق قانوني، بل وفوق تاريخي، يناط تنفيذه بـ»المسلمين» بوصفهم أمة روحية، ذاتاً عابرة للحدود والأزمنة والأنظمة السياسية، عليها أن تعاقب كفراً وتغسل ذنباً لا يغتفر.
قد يبدو هذا النمط من التفكير «ظلامياً» بالنسبة للبعض، لكن مفكراً من وزن ميشيل فوكو قدّم وجهة نظر مغايرة، في تغطيته لوقائع الثورة الإسلامية في إيران: إنها «سياسات روحية». حراك الإيرانيين، حسبه، كانت تجسيداً للقدرة السياسية المتفجّرة للإسلام، الذي شبّهه بـ«برميل بارود» إذ أنه قادر على تحريك الأمة، بوصفها كياناً واحداً، ضد السلطة ومؤسساتها، ما يعبّر عن نمط جديد من الذاتية، لم يألفه الغرب، المسجون في الذاتية الديكارتية وثنائياتها (العقل والجنون؛ الذات والموضوع؛ الأنا والآخر، إلخ) التي قامت دائماً بإقصاء وتهميش وقمع فئات كثيرة، خارجة عن تحديدات ومركزية «الأنا» الغربية.
قد يبدو هذا النمط من التفكير «ظلامياً» بالنسبة للبعض، لكن مفكراً من وزن ميشيل فوكو قدّم وجهة نظر مغايرة، في تغطيته لوقائع الثورة الإسلامية في إيران: إنها «سياسات روحية».
لم ير فوكو انقساماً أو ثنائيات في إيران الثورة، فالكل كانوا مجتمعين، إرادةً واحدةً ضد السلطة. و»الشريعة» التي نادوا بها، ليست نصاً قانونياً جامداً، بل كياناً يكشف عبر الزمن المعاني والحقائق الروحية الكامنة فيه، و»بقدر ما يوقظ الناس الحقيقة تنيرهم بدورها» حسب تعبير فوكو، وهو ما يتفق مع ما ورد في محاضراته المتأخرة في «الكوليج دو فرانس» والتي اعتبرت أن مقاومة السلطة تقوم على سؤال إيتيقي أهملته المعرفة الغربية، وهو «كيف تصبح النفس ذاتاً أخلاقية للحقيقة». وهكذا فإن «فارس، التي اخترعت الدولة، وقدّمت نموذجها للإسلام، اتخذت من هذا الإسلام ذاته ديناً يرفد شعبها بأسباب لا تنتهي لمقاومة سلطة الدول» كما ورد في مقالته الشهيرة «بم يحلم الإيرانيون».
وبغض النظر عن الانتقادات الكثيرة التي وجّهت لفوكو آنذاك، واضطرته لنوع من الصمت والتراجع، إلا أن «السياسات الروحية» التي وصفها ما تزال تعمل حتى الآن على ما يبدو: شاب أمريكي الجنسية، لكنه من أبناء «الأمة» في الوقت نفسه، طعن سلمان رشدي، بعد أربعة وثلاثين عاماً من فتوى الخميني بقتله، مقاوماً بذلك ما يظنه الكفر والطاغوت. السؤال هنا: لماذا كان رشدي بالذات هدفاً مفضلاً للسياسات والمنظورات المتشبثة بهذا النوع من «الحقيقة» سواء بالنسبة للخمينيين والمتطرفين، أو للمثقفين الغربيين المتفهمين لهم ولـ»حساسياتهم»؟
فائض القوة
عقود حكم الثورة الإيرانية لم تثبت فاعلية كبيرة في مقاومة «السلطة الغربية» التي كرهها فوكو كثيراً، بل كان أغلب ضحايا «الأمة الروحية» التي أسسها الخميني، من المسلمين المغلوبين على أمرهم: عشرات آلاف العراقيين، في الحرب العبثية بين الخميني وصدام حسين؛ كثير من السوريين واللبنانيين واليمنيين، ممن قتلتهم الميلشيات الموالية لطهران؛ فضلاً عن عشرات المثقفين المسالمين، داخل إيران وخارجها، وآخرهم سلمان رشدي.
قد تكون ممارسات نظام الخميني «روحية» بالفعل، بمعنى أنها لا تلتزم حصراً بالمؤسسات؛ المدونات القانونية؛ الزمان والمكان بالمعنى الوضعي المحدد للمفهومين، وتعتمد على «أمة» واحدة وعابرة للحدود من الموالين العقائديين، إلا أنها تبقى «سياسية» لأنها تخدم إرادة صاحب سيادة دنيوي، وتحديده للصديق والعدو، وما يفرضه من حالات استثناء حيث وصلت سلطته. «الروحية» بهذا المعنى تعطي للمؤسسات السلطوية، التابعة للدولة، فائضاً من القوة لا يمكن حسابه، أو التحسّب له بدقة. وتجعل قوتها أكثر من مجرد مجموع قوة أجهزتها وجيوشها والميليشيات الموالية لها. فتصبح «أثقل» في ميزان السلطة مما هي عليه فعلياً، أو بالأصح، تضيف قوة سائلة، غير موجهة مركزياً، إلى القوة الصلبة للدولة، التي تعمل عادة عبر مؤسسات عنفية وأيديولوجية متعيّنة. هذا بالفعل مختلف عن النمط الكلاسيكي للسلطة الغربية.
إلا أننا لم نعد نعيش في زمن «المراقبة والمعاقبة» الاعتيادي، الذي تحدث عنه فوكو أيضاً، ليست الدولة الإيرانية وحدها من اعتمد الأسلوب السائل للإضافة إلى سلطتها، فالسلطات الغربية اليوم أيضاً لا تعتمد على المؤسسات التابعة لها مباشرةً حسب، بل لديها بدورها «فائض قوة» يصعب حسابه، مكوّن من جمهور عشرات المنظمات غير الحكومية، الأكاديميات «الحرة» مواقع التواصل الاجتماعي، وسائل الإعلام الخاصة، التي يعمل فيها موظفون ليسوا مرتبطين مباشرة بدولة بعينها، بل هم جزء من جماعة عالمية، تتقاسم قيماً واحدة، ولديها موقف موحّد من مختلف القضايا، وقادرة على فرض الرقابة و«الإلغاء الثقافي» على من يخالفها، وتنتشر غالباً في البيئات الحضرية المزدهرة، أو التي تسعى للازدهار. هذه الجماعة قد تشبه، من حيث الخصائص، «الأمة الروحية» العابرة للزمان والمكان، التي أسسها الخميني.
بهذا المعنى فربما ما تحدث عنه فوكو، وسط انجذابه المبالغ به للثورة الإيرانية، هو نمط جديد من السلطة، لا يتعلّق فقط بـ»الإسلام» بل كان حدثاً عالمياً، إذ غيّرت معظم السلطات توجهاتها وتقنياتها آنذاك، مع اضمحلال المجتمعات الصناعية الكلاسيكية، وتراجع المؤسسات الانضباطية التقليدية. وبالفعل يعدّ بعض الباحثين اليوم ميشيل فوكو، وكثيراً من المفكرين الذين تأثروا به، منظرين «طليعيين» متحمسين لذلك النمط من السلطة، الذي يسميه البعض أحياناً «نيوليبرالية». عالم السلطة السائلة، القابلة لـ«الروحانية» ولكل أشكال تكوين الهوية العابرة للحدود، يعتمد على قيم مغايرة للمألوف في الحيز العام الكلاسيكي: احترام «الحساسيات» المبالغ به؛ «التسامح» الشديد مع الانغلاق الهوياتي والتفكير الديني الأصولي، بل دعمه كثيراً من الأحيان؛ والأهم تبجيل نمط الذاتية المفردنة، التي تتخيّل دوماً تطابقها مع «حقيقة» ما، مرتبطة بتجربة ذاتية لأصحابها، لا تُناقش أو يُشكك بها، لأنه لا يمكن ترجمتها إلى لغة عامة مشتركة. وهكذا يمكن للأفراد استهلاك ما يشاؤون من «حقائق» تتيح لهم الانتماء إلى أي «أمة روحية» يشاؤون، بعد انفصالهم عن أي سياق اجتماعي وثقافي صلب ومترسّخ. قد تكون تلك الذوات المشتتة، الفصامية، هي الميدان الأساسي لعمل السلطة المعاصرة. كما قد يكون طاعن رشدي، الأمريكي، الذي ظن نفسه ابناً باراً لأمة الخميني، مثالاً ممتازاً عنها.
في روايته «العار» التي يسرد فيها سيرة باكستان المعاصرة، الغارقة تحت وطأة التطرف الديني والهيمنة الخارجية، يتحدث رشدي عن الأساطير الدينية، المستخدمة لإخضاع الناس، التي يرى أنها لا بد من أن تسقط يوماً.
تلغيم سرد السلطة
ربما كان سلمان رشدي، الذي بدأ نشاطه الكتابي منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، من أهم من أشاروا أدبياً إلى نمط الهيمنة الناشئ ذاك. لم يسع الروائي البريطاني إلى إنشاء سرد مضاد عن نموذج الذاتية المشتتة، المرتبط بسلطات العصر ما بعد الاستعماري المعولم، بقدر ما حاول تلغيم سرد السلطة نفسه بأصوات متعددة، تتخفى في قول الذوات المشوّهة، الفصامية، الممسوخة، بخصوص كل عمليات الإزاحة والتهجير والتغريب، التي سبّبها فعل السلطة المعاصرة، بنسخها الشرقية «الروحانية» والغربية المرهفة تجاه «الحساسيات».
في «آيات شيطانية» لا يسعى رشدي لإهانة الإسلام ورموزه، بل إلى تمثيل الفصام الذي يعيشه المهاجرون المسلمون بين عالمين، يبدوان منفصلين ومتصارعين، لكنهما يتواطآن لتشكيل الذاتية المشوّهة والخاضعة، الغارقة في صراعات ورموز مفروضة عليها، لا تفهمها تماماً، لكنها تستهلكها بوصفها «حقائق»؛ أما في «البيت الذهبي» التي نشرها عام 2017، فيتحدث عن الحياة في مدينة عملاقة مثل نيويورك، تتعدد فيها الأقنعة والخطابات الخاوية، الحريصة دوماً على «الصوابية» من خلال سيرة عائلة مسلمة ثرية، انتقلت من الهند إلى أمريكا. سخر رشدي، في كل رواياته، من سرد السلطات المعاصرة، بأشكاله المختلفة، واستحق لذلك ربما لعنات أنصارها، سواء كانوا من الإسلاميين أو النيوليبراليين.
أساطير جديدة
إلا أن سخرية رشدي السوداء لم تكن مجرد فعل عبثي، بل كان يحاول مناصرة القيم الأكثر ديمقراطية عن الحيز العام، فمهمة الكاتب بالنسبة له أن يقول الحقيقة في وجه المخادعين، يتحذ موقفاً، ويثير جدلاً. وهي كلها قيم لا تريح السلطة المعاصرة، التي تبدو مهتمة بـ»حماية» الذوات التي خلقها، المسجونة في دائرتها السحرية، من أي جدل، قد يؤدي لتشكيل نمط من العقلانية العمومية على المستوى بين الذاتي.
في روايته «العار» التي يسرد فيها سيرة باكستان المعاصرة، الغارقة تحت وطأة التطرف الديني والهيمنة الخارجية، يتحدث رشدي عن الأساطير الدينية، المستخدمة لإخضاع الناس، التي يرى أنها لا بد من أن تسقط يوماً. إلا أنه لا يكتفي بهذا، بل يقول: «انهيار الأساطير القديمة سيؤدي إلى التفكك أو قيام ديكتاتورية جديدة.. لا، ثمة خيار ثالث، فأنا لن أكون متشائماً لهذه الدرجة: إحلال أسطورة جديدة محل الأسطورة القديمة. وهنا توجد أساطير مناسبة: الحرية، المساواة، الإخاء. وأنا أوصي بها بشدة».
رجل كهذا ربما سيُطعن بالضرورة في عالمنا!
كاتب سوري
“القدس العربي”