في طفولتي وصباي أسرتني الأفلام الأجنبية عن الأساطير اليونانية. أفلام عن هرقل، وأفلام عن حرب طروادة وهيلين، وعن أوليس أو أدويسيوس، وأفلام عن أوديب أو أنتيغون أو ياسون أو أخيل، وغيرهم كثير. لم أكن أعرف أن وراء الحكايات أفكارا فلسفية من أي نوع. كنت مثل كل من كانوا في عمري انبهر بالمغامرات والحروب والحب بين الرجال والنساء، ومن ثم كنا نجري وراء هذه الأفلام في السينمات، لا نملّ الفرجة عليها قط، وقد نرى الفيلم الواحد عشر مرات، وهو يتنقل بين دور السينما ذات الأسعار المختلفة، من الدرجة الأولى إلى الدرجة الثانية إلى الدرجة الثالثة.
كانت الأسعار في متناول أيدينا، فإذا لم يكن لدينا أربعة عشر قرشا لسينما الدرجة الأولى، ستكون لدينا ثلاثة قروش للدرجة الثانية، أو تسعة مليمات للدرجة الثالثة. لم نرَ قط أفلاما عن الأساطير المصرية، وإن كنا أحيانا نرى أفلاما عن الأساطير البابلية أو السومرية أو العبرية، لكنها كانت أقل كثيرا من الأفلام عن الأساطير اليونانية. كانت الأفلام عن الأساطير اليونانية مثل أفلام الكاوبوي، متوفرة في كل السينمات وكل الأوقات. غابت عنا دائما كما قلت الأفلام عن الأساطير المصرية، رغم أن السينما المصرية في ذلك الزمن، كانت في أوج ازدهارها، ولم يكن صعبا أن نفهم في ما بعد، أنه من الصعب أن يوافق الرقيب على عمل فيلم مصري، فيه قصص الحب أو الصراع بين الآلهة المصرية، فديانتنا هي التوحيد ولا إله غير الله.
لم يفكر أحد أن المسيحيين في كل الدنيا، وفي أمريكا مصدر تلك الأفلام عن الأساطير الاغريقية، لم يتركوا دينهم ويعدون زيوس كبير الآلهة، أو هيرا زوجته، أو بوسايدون إله البحر، أو أبولو إله الشمس، أو أفروديت إلهة الحب، أو ديونيزيوس إله الخمر، أو غيرهم. كنا نرى هذه الآلهة أو الكثير منها في تلك الأفلام، ونخرج لا نفكر أن نعبدها، فما هي إلا حكايات ممتعة لنا. عشنا زمنا طويلا حتى رأينا فيلما مثل «إخناتون» لشادي عبد السلام، وبعده لم تتكرر الأفلام عن آلهة أو أنبياء أو مصلحين مصريين قدماء.
كانت دائما الأفلام عن الأساطير اليونانية هي أكثر ما يصل إلينا. عرفت شيئا من المعاني الكامنة خلف الملاحم اليونانية، على رأسها أنها كلها كانت بترتيب الآلهة أو الأقدار، وليست من فعل الإنسان بإرادته إلا في المظهر.
حتى الأفلام عن خروج اليهود من مصر في العصر القديم، كانت تأتي من هوليوود، مثل فيلم «الوصايا العشر» الذي أُنتج سنة 1956 والذي أخرجه سيسيل دي ميل عن قصة النبي موسى، والخروج مع بني إسرائيل من مصر، والتيه العظيم في سيناء، حتى تلقى موسى الوصايا العشر من الله عند طور سيناء. كثير من حكايات التوراة رأيناها أفلاما نحن المسلمين، ولم نغير ديانتنا، منها فيلم «سالومي» لريتا هيوارت الذي ظهر عام 1953 وكان إقبالنا عليه صبية وشبابا مذهلا. أصابنا الحزن على يوحنا المعمدان، لكن لم نتوقف عن مشاهدته، بسبب رقصة سالومي أكثر من أي شيء آخر.
كما قلت كانت دائما الأفلام عن الأساطير اليونانية هي أكثر ما يصل إلينا. عرفت شيئا من المعاني الكامنة خلف الملاحم اليونانية، على رأسها أنها كلها كانت بترتيب الآلهة أو الأقدار، وليست من فعل الإنسان بإرادته إلا في المظهر. كانت الملاحم التي جاءت عنها هذه الأفلام، والمسرحيات اليونانية القديمة، هي بنت المجتمع العبودي، فالآلهة هي التي تصنع كل حركات الإنسان، من حروبه إلى حبه، ومن موته إلى حياته. ربما أكون نسيت الآن الكثير منها، وإن لم يكن صعبا أن أتذكر، لكن حين نضج العقل والروح، صرت مبهورا بمعاني بعض الأساطير لا أنساها. أولها حكاية كعب أخيل. فعندما كان أخيل طفلا جاءت النبوءة إنه سيموت في معركة، ولمنع موته أخذته أمه ثيتس، إلى نهر ستيكس المقدس، وهو النهر الذي يمنح ماؤه القوة والخلود. غطسته في النهر ولم تدرك أن الماء السحري لن يصل إلى كعبيه اللذين تمسكه منهما. صار كعبه هو نقطة ضعفه، ومنه مات من سهم قذفه باريس في حرب طروادة من فوق سور طروادة، ووصل إلى كعب أخيل فمات. رغم عظمة الحرب وإسهام أخيل فيها، لكنه مات من نقطة ضعفه. صارت الأسطورة مثلا على أن لكل إنسان نقطة ضعف، مهما بلغ من الجبروت. والسؤال الذي لازمني طوال حياتي هل أدرك الجبابرة ذلك؟ هل توقف الظالمون عن عسفهم، خوفا من يوم يأتي فيه السهم، في نقطة ضعفهم التي لا يدركونها. مسيرة الطغاة لا تعترف بأيّ نقطة ضعف، ولا حتى أن لهم نهاية يوما ما. هو صبرنا يأتي من أنه يوما ما سيتم الوصول إلى نقطة الضعف، أو كما قال شاعرنا المصري ابن عروس «لا بد من يوم معلوم تترد فيه المظالم.. أبيض على كل مظلوم، أسود على كل ظالم».
كان هرقل يعرف أن مصدر قوة انتايوس هي الأرض، فحمله عنها ولم يتركه إلا بعد أن صار ترابا. الأرض هنا تعني الكثير. الوطن أو الأصل أو الحبيبة أو البيت، أو ما تشاء من أشياء جميلة مثل حسن الخلق، فتخليك عنها خيانة حتى لو لم تقصد.
الحكاية الثانية التي أسرتني هي حكاية سرير بروكست، وأحيانا تكتب بروكرست. بروكست قاطع الطريق الذي كان يقتل من يمر عليه بطريقة عجيبة جدا، لديه بيت يدعوه إليه ويقدم إليه الغذاء، وفي الليل يدعوه إلى غرفة لينام الضيف ويستريح فيها. يضعه فوق السرير الوحيد الذي يملكه، فإذا وجده أطول من السرير قطع من ساقيه جزءا، وإذا وجدة أقل طولا من السرير، شد ساقيه حتى يخلعهما من مفاصلهما، ليكون مناسبا للسرير. صحيح أن حاكم البلاد بعد ذلك قتله بالطريقة نفسها، باعتباره مجرما وقاطع طريق، لكن القصة خلّفت وراءها المعنى الكبير للانتهازيه، فعليك أن تكون متماهيا مع ما حولك، خاصة ما يفعله الحكام، وإلا سيتم قطع ساقيك.
تجليات ذلك كثيرة جدا حولنا في الحياة، وفي الحياة الثقافية أيضا في النظم الشمولية، ورأينا كيف هَجَر أو هاجر كتّاب كثيرون، من دول كثيرة مثل الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية، لم يتماهوا مع أفكارها، وما زلنا نرى مظاهر ذلك حولنا في كثير من الدول التي تحكمها الشمولية في التفكير من أعلى إلى أسفل. كان يمكن تغيير السرير، أو تعدد الأسرّة لتكون مناسبة للمارة، لكن تغيير شكل الناس وتشويههم أسهل، حتى لو مات الملايين. سرير بروكست فكرة لا تموت للأسف. أفسر بها كثيرا جدا مما حولي مما أسمعه أو أراه، وأندهش من قدرة الأساطير اليونانية، على فهم وتلخيص الحياة كأنما كُتبت لنا، رغم أن من حكاها مثل هوميروس، أو كتبها في ما بعد، لم يكن يعرفنا ولا يعرف شيئا عن أحوالنا.
ثالث الحكايات الأسطورية التي تمشي معي ولا أنساها، هي حكاية أنتايوس، الذي كان ابن بوسايدون إله البحر، وجايا ربّة الأرض. لم يكن من الآلهة لكن من العماليق أنصاف الآلهة، يستمد قوته من أمه جايا، أي من الأرض، فكان يمنع دخول الغرباء إلى بلدته، ويقطع رؤوسهم في معركة لا يبتعد فيها قط، عن الأرض مصدر قوته، وحينما اقترب هرقل من مدينته دخل معه في معركة. كان هرقل يعرف أن مصدر قوة انتايوس هي الأرض، فحمله عنها ولم يتركه إلا بعد أن صار ترابا. الأرض هنا تعني الكثير. الوطن أو الأصل أو الحبيبة أو البيت، أو ما تشاء من أشياء جميلة مثل حسن الخلق، فتخليك عنها خيانة حتى لو لم تقصد. لكن كم في الدنيا حولك يتخلون عن هذه المعاني للوطن، ولا يدركون أنه هكذا ستكون نهايتهم. حتى العقل الجمعي البسيط في مباريات الكرة أو غيرها، حين يلتقي فريقان على أرض فريق منهما، تتوقع الجماهير فوز الفريق صاحب الأرض، وعادة يتم ذلك، وتكون الهزيمة له نادرة. هل أمشي مع حكايات أخرى تمشي معي من الأساطير الإغريقية. سيطول الأمر وأدعو الله أن نجد طريقة لإغلاق صناديق، وليس الصندوق الواحد فقط لباندورا، هذه الصناديق التي انفتحت في بلادنا فملأتها بكل الشرور.
روائي مصري
“القدس العربي”