قال المعلق تيموثي غارتون آش، في مقال نشرته صحيفة “الغارديان”، إن بريطانيا في مرحلة ما بعد الملكة إليزابيث الثانية ستواجه مستقبلا متلاشيا وصعبا لكن لا يعني ذلك أنها لن تكون مهمة.
وأضاف أنه مهما كان موقفك من مؤسسة الملكية في دولة ديمقراطية، يجب أن يكون هناك احترام لحكمها الذي امتد على سبعين عاما، مشيرا إلى أن الخدمة للحياة العامة والحيادية كرأس دولة وكرمز موحد في بريطانيا وكل ما مثلته بات اليوم محل شك. فقد كانت الملكية ممثلة لوحدة متناقضة ظاهريا جمعت 4 شعوب في أمة واحدة هي المملكة المتحدة. ومن المتوقع خروج الإسكتلنديين من الاتحاد من أجل الانضمام مرة ثانية للاتحاد الأوروبي. وترى إيرلندا الشمالية مستقبلها وبشكل متزايد مع جمهورية إيرلندا وكعضو غير رسمي في الاتحاد الأوروبي. وحتى لو لم تتحول بريطانيا لمجرد إنكلترا وويلز فهي بحاجة لإعادة تنظيم نفسها دستوريا.
ومثلت الملكة الاستمرارية والأمن واليقين، لكن بريطانيا اليوم تواجه زيادة في كلفة المعيشة وارتفاعا في الدين العام وركودا محتملا ومشكلة إنتاج مزمنة. وتواجه كل هذه المشاكل في ظل رئيسة الوزراء غير المجربة، ليز تراس وبحكومة غير مجربة.
ولا يوجد الكثير من اليقين، فرغم تفاؤل تراس إلا أن نسبة 69% من الذين شاركوا في استطلاع قالوا إن بريطانيا في حالة “تدهور”.
وعلى المستوى العالمي، حظيت الملكة باحترام واسع. وفي الحقيقة كانت وعلى مدى عقود أشهر امرأة في العالم. وشاهد مليار شخص ظهورها مع جيمس بوند في حفل افتتاح الألعاب الأوليمبية عام 2012. ومع إعلان نبأ وفاتها غردت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) “ننضم إلى الكوكب لتذكر وفاتها”، وانسحب هذا الحضور السحري على بريطانيا التي جسدتها، لكن بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي تراجع الموقف الدولي البريطاني إلى مستويات متدنية. وأشرفت على انتقال الإمبراطورية وبسلاسة إلى رابطة دول الكومنولث وتحولها من قوة إمبريالية عظمى إلى قوة متوسطة أوروبية- أطلنطية. ولكن العديد من المستعمرات القديمة التي كانت تقسم الولاء لها باتت تعيد التفكير في العلاقة والتخلي عن خدمات خليفتها، الملك تشارلز الثالث. واقترح خبير في الكومنولث أن رحيل الملكة قد يؤدي إلى تعجيل الخروج من الباب. ويواجه الملك دعوات للاعتراف والتكفير عن آثام الإمبراطورية.
قد يواجه الملك تشارلز الثالث دعوات للاعتراف والتكفير عن آثام الإمبراطورية
والأكثر أهمية من هذه المناصب الخارجية الرمزية هو الوضع الجيوسياسي البريطاني غير المؤكد. وفي عام 1962 قال دين أتشيسون، وزير الخارجية الأمريكي، مازحا إن بريطانيا “خسرت الإمبراطورية ولم تعثر على دور”. وبعد أربعين عاما وأثناء احتفالات الملكة باليوبيل الذهبي عام 2002، كانت هناك إمكانية للحديث عن عثور بريطانيا وأخيرا على دور. وفي روحية اليوم، وبعبارات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فالحال يشبه “مثل وكذلك”، فبريطانيا لن تكون راسخة فقط في علاقاتها مع أوروبا والمجال الإنكليزي بل وبعلاقات خاصة مع الولايات المتحدة وكذلك فرنسا وألمانيا وبولندا.
ومن الخارج تفكر بريطانيا بأن لديها موقعا استراتيجيا قويا في عالم اليوم. و”هذه مأساة بلدي، أن يعثر على دور في مرحلة ما بعد الإمبراطورية ثم يخسره مرة أخرى”، ومنذ التصويت على بريكسيت في 2016، انحدرت بريطانيا من رئيسة وزراء براغماتية نسبيا وعاجزة (تيريزا مي) إلى محاكاة ساخرة لوينستون تشرتشل (بوريس جونسون) إلى محاكاة ساخرة أخرى لمارغريت تاتشر (ليز تراس). وزادت نسبة التباهي بشكل كبير مقارنة مع تدهور الواقع القائم على الحقائق. وهناك الكثير من الرغي حول “بريطانيا العالمية” ولا أحد يعرف ما تعني.
ولو كانت التغطية الشاملة لوفاة الملكة إليزابيث هي تعبير عن الهروب النفسي من المشاكل الحالية، فإن بعض التغطية الأجنبية بالغت في الحديث عن الضعف وراء الأبهة والوضع. فالبلد لا يزال لديه مكامن قوة، فقد اقترح الكثير من المعلقين بعد البريكسيت انقسامه إلى معسكرين معاديين: الداعمون للبقاء والخروج من أوروبا. لكن وباء كوفيد- 19 والتضامن مع الصحة الوطنية والحداد الوطني العام على وفاة الملكة يكشف عن وحدة. وبالنظر لحشود المعزين علاوة على الحكومة التي لم يعين فيها وزير أبيض في الوزارات الأربع المهمة يظهر أن بريطانيا نجحت في استيعاب التنوع النابع من الهجرة أفضل من أي ديمقراطية أوروبية أخرى.
بالنظر لحشود المعزين علاوة على الحكومة التي لم يعين فيها وزير أبيض في الوزارات الأربع المهمة يظهر أن بريطانيا نجحت في استيعاب التنوع النابع من الهجرة أفضل من أي ديمقراطية أوروبية أخرى
ولدى بريطانيا علماء وجامعات وأفضل صحف في العالم (والأسوأ) ولديها صناعات إبداعية وخدمات تكنولوجية ومالية. وكشف الانتقال السلس من ملكة إلى ملك ورئيس وزراء لأخرى أن هناك ديمقراطية دستورية في وضع جيد. ورغم كل التوقعات عن الملك الجديد، فلن يكون سوى ملكا محترما ومنضبطا. ولو تسببت حكومة تراس بالفوضى، وهو المرجح، فسيتم التخلص منها في انتخابات قادمة، محتملة في عام 2024.
وعلى خلاف الاستقطاب المشحون في الولايات المتحدة فلن يشك احد في نزاهة الانتخابات. ولن يكون هناك حزب يحمل شعارات “أوقفوا السرقة” أو يلوح بالبنادق. وسيعود الحس الواقعي للخطاب بعد استكمال إجراءات دفن الملكة. وربما كان عقد العشرينيات من القرن الحادي والعشرين صعبا للبعض، لكنه يعيد استدعاء عبارات تعزي النفس والتي يشعر المرء أن الملكة استخدمتها بين الحين والآخر: قد يكون الأمر أسوأ.
“القدس العربي”