مؤلفات كثيرة صدرت، والأرجح أنها سوف تتعاقب، حول المخرج والمنظّر السينمائي السويسري/ الفرنسي الكبير جان – لوك غودار (1930-2022)؛ لا تقتصر على تثمين منجزه الحافل في إخراج أفلام شكّل معظمها منعطفات فارقة، أو التنظير للسينما من جوانب شتى فنّية وسياسية وفلسفية، بل كذلك مساءلة آراء غودار والاشتباك معها من مواقع اختلاف أو اتفاق، أو ضمن منزلة وسيطة بين الحماس المطلق أو القبول المشروط أو الرفض الأقصى. وهذه كانت وتظلّ إرثاً منتَظراً تماماً إزاء حصيلة حافلة ندر أنها لم تتخذ مسالك إشكالية على أصعدة شتى؛ خاصة وأنها، في السياسة مثلاً لم تتخلّف عن مفاعيل حراك 1968 التاريخي في فرنسا والعالم، وفي الإيديولوجيا سعت إلى مزاوجة شاقة بين ماوتسي تونغ ووالتر بنيامين، وسوى ذلك كثير وافر.
وإذا كان المقام، هنا، لا يتيح استعراض الكثير من عناوين المؤلفات المتميزة حول غودار، أو حتى ذكر بعضها الأبرز في الحدود الدنيا، فإنّ هذه السطور لن تفلح استطراداً إلا في اختيار كتاب واحد، والسعي إلى إنصافه تحت سقف حفنة محدودة من الكلمات، ليس أكثر. اعتبار آخر يمكن أن يسوّغ هذا الاختيار، مفاده أنّ الكتاب لا يتعمّق في تشخيص تجربة غودار وحده، بل يضعه في مصافّ تقدير متماثل مع الشاعر والروائي والمسرحي الفرنسي الكبير جان جينيه (1910-1986)؛ كما يتقرى الكثير من سمات امتيازهما على خلفية ملفات عادلة بقدر ما هي شائكة، تتصل بالقضية الفلسطينية. ثمة، إلى هذا، إغواء خاصّ يقترن بهذا الكتاب تحديداً، قوامه أنّ مؤلفه شاؤل سيتر يعمل أستاذاً للأدب والفنون والنظرية في جامعة تل أبيب؛ الأمر الذي يتيح أكثر من فرصة واحدة للوقوف على قراءات باحث إسرائيلي في أعمال اثنين من كبار أدباء فرنسا وفنانيها، تعاطفا بقوّة مع شعب فلسطين والمقاومة الفلسطينية.
وإذْ شارك غودار وجينيه في مصاحبة المقاتلين الفلسطينيين والاستجابة (عبر الصورة السينمائية والنصّ الكتابي) لطلباتهم في أن يتصرفوا كمؤلّفين؛ فإنّ «بنية الكتابة» انقلبت بذلك إلى «برهة ثورية» أشبه بالمطهر
الكتاب بعنوان «الجماعية في النضال: غودار، جينيه، والثورة الفلسطينية خلال السبعينيات»، وقد صدر بالإنكليزية سنة 2021 ضمن منشورات Lexington في لانهام، ماريلاند؛ ويبدأ سيتر صفحاته الـ 185 صفحة، وأربعة فصول ترفدها مقدمة وخاتمة، باعتراف جدير بالتنويه هنا: هذا كتاب مرّ تأليفه بمراحل زمنية مطوّلة، تشابهت خلالها أطوار الكتابة مع تحوّلات غودار وجينيه الإبداعية بصدد القضية الفلسطينية: انتفاضة، ثمّ انقطاع، ومآلات تتراوح بين «التأمل النقدي الكئيب أو الاتقاد الاستيهامي». هذا في أطوار بيركلي، حيث كان سيتر يدرس، وأمّا في فلسطين المحتلة فقد مكّنه فلسطينيون وإسرائيليون كثر من تصويب زوايا عديدة كانت في السابق تحكم نظرته إلى مواضيع الكتاب.
وفي أصل دوافع سيتر أنّ «برهة 1968» دشنت عصر نضال ثوري ينفتح على العنصر السياسي ويسبغ عليه فضاءات تتجاوز ما هو دبلوماسي وتفاوضي، وما ينحصر في الديمغرافي أو السوسيولوجي، وما يتمحور حول الاستنكار المعنوي؛ وفي ترجمة ذلك على مستوى القضية الفلسطينية، يشير سيتر إلى ثلاثة نماذج عليا: 1948، 1967، و1968 ذاتها. وبدلاً من وضع مشروعَي غودار وجينيه داخل إطار انفتاح الفنّ الفرنسي على النضال في الشرق الأوسط، بما تميّز به عن نظائر أوروبية واستشراقية، فنية وسياسية، فردية وجماعية؛ حرص سيتر على تأصيل المشروعين في برهة 1968 من جهة أولى، وعلى توظيفهما مفهومياً من أجل تحدّي المقولات التي تفصلهما عن تلك البرهة من جهة ثانية. بذلك فإننا «لا نبدأ من كتابة التاريخ فقط، بل الكتابة في التاريخ»؛ وتلك، في رأي سيتر، ظلت سمة جوهرية في النضال الفلسطيني خلال عقد السبعينيات، وبرّرت لكاتب/ مناضل مثل غسان كنفاني أن يقترح تعبير «أدب المقاومة».
تبقى إشارة أولى إلى أنّ الشاعر والأكاديمي الصديق كاظم جهاد قدّم للمكتبة العربية ترجمة، إبداعية بقدر ما هي أمينة، لكتاب جينيه «أسير عاشق»، صدرت سنة 1997؛ يستعيد في معظم فصوله وقائع شهور امتدت على سنتين، عاشها جينيه في ضيافة المقاومة الفلسطينية، في عجلون الأردنية، مطلع السبعينيات، تحت الاسم الحركي «الملازم علي». إشارة ثانية إلى أنّ غودار أنجز، من العاصمة الأردنية عمّان مطلع السبعينيات، شريطه «حتى النصر»، الذي سيصبح عنوانه «هنا وهناك»، حول الفدائيين الفلسطينيين؛ كما أشرك محمود درويش في شريطه «موسيقانا»، 2004، صحبة الإسباني خوان غويتيسولو والفرنسي بيير بيرغونيو وممثلين عن أقوام أمريكا الأصليين؛ وكانت مدينة سراييفو بمثابة مسرح لإعادة تمحيص التاريخ في مراحل دانتية ثلاث: الجحيم، المطهر، والفردوس.
يبقى، ختاماً، بُعد إضافي في الكتاب يجسده إلحاح سيتر على أنّ أعمال غودار وجينيه تكشف أيضاً الجوانب الكتابية للنضال ذاته: «طرائق نضال المقاتلين الفلسطينيين ليصبحوا رواة أفعالهم أنفسهم. المقاتلون يصورون ويتولّون المونتاج، يقفون أمام الكاميرا ويستخدمونها، وهم الممثلون في مسرح سياسي وأفعالهم تتخذ غالباً منحى إيماءات ذاتية الصنع. يجهدون كي يكونوا مؤلفي حكايتهم، وأن يكتبوا كلماتهم هم في كتاب التاريخ». وهكذا، وإذْ شارك غودار وجينيه في مصاحبة المقاتلين الفلسطينيين والاستجابة (عبر الصورة السينمائية والنصّ الكتابي) لطلباتهم في أن يتصرفوا كمؤلّفين؛ فإنّ «بنية الكتابة» انقلبت بذلك إلى «برهة ثورية» أشبه بالمطهر، وأسفرت عن السيرورة التالية: «الانشطار بين الفعل والنصّية، بين الجسد والكلمات، وبين المادّة والوعي، والذي لاح أنه مدماك بنيوي، إنما فقد ركيزته».
“القدس العربي”