إنّ العلاقة الداخلية بين الإيقاع والمعنى تتلف المعنى الوحدة – الكلية، وتستبدل اللغة باللسان من أجل الخطاب، وبالحياد الديداكتيكي- العلمي من أجل الكشف عن الاستراتيجيات والرهانات. إن الإيقاع هو نقد المعنى، وهذا ما يهُمّ تأسيس الإيقاع قبل تعريفه، فالبدء بالتعريف لا يبدو فقط مسعىً لا علميّاً، بل هو مُضادّ للنقد.
الإيقاع، الذات، المعنى
ليس مفهوم الإيقاع ما تراهن عليه نظرية الإيقاع داخل اللغة، وإنّما مفهوم المعنى، والوضع الاعتباري للمعنى، ومن هنا تبدأ كلّ نظرية للغة. في إمكاننا ـ ابتداءً- أن نطرح أنّ نظرية الإيقاع، أيّاً كانت، هي الوضعية النقدية لنظرية اللغة، ويكون رهان المعنى إما تابعاً لنظرية الدليل، أو يكون تشييداً لنظرية الخطاب. بين هذا وذاك، يتغير تحديد الإيقاع، والعلاقة بين الدليل واللسان والخطاب تتغير بدورها.
أعرض ـ هنا- نقد المفهوم السائد للإيقاع بعد تحليل الرهان، طالما أن هذا الأخير هو يؤطر الصراع ويُوجّهه على نحو يحدد المصطلحات ومعناها. وحسبنا أن نذكر، لوضع السؤال، أنّ المفهوم السائد للإيقاع متوافقٌ مع نظرية الدليل، ما دام أنّه مُضمّنٌ فيها؛ إذ تجعل من الإيقاع عنصراً شكلياً، ومن العلاقات مع المعنى عندما يُنْظر إليه، مجرد علاقات محاكاة. علاقات متجاورة وثانوية؛ فالإيقاع ليس مفهوماً دلالياً. إنّه بنية ومستوى، والفرق بين الشكل والمعنى، وبين الإيقاع والمعنى، مماثلٌ للفروق المقوليّة بين النحو والمعجم والتركيب والصرف. فرقٌ متعارف عليه، لا يثير المشكلة، ويجيز الدراسة الفيلولوجية والبنيوية على حد سواء.
تأثير بنفينيست
وهو ينتقد الإيثيمولوجيا التي تؤثل التعريف السائد وتؤسسه عملياً، كان إيميل بنفينيست قد خلخل وقوّض ليس مفهوم الإيقاع وحسب، بل إدماجه داخل نظرية الدليل، مثلما خلخل نظرية الدليل نفسها. فعندما كان يعيد كتابة تاريخ الكلمة، لم يكن معنى المفهوم هو الذي يتغيّر فقط، بل إن هذا المعنى لم يعد يسجن نفسه داخل الشكل، أو أن يكون طرفاً داخل الثنائية.
بوصفه تنظيماً، و»تشكلات مخصوصة للمتحرك» أو «ترتيباً مميزاً للأجزاء داخل الكل» و»شكلاً من الحركة» يكون الإيقاع قد هجر التعريف الجامد الذي أبقاه داخل الدليل، وداخل أولوية اللسان، وصار في إمكانه أن يلج الخطاب. ومن المفارق أن بنفينيست لم يبلور هذا العمل، لكنه الأول والوحيد الذي جعله ممكناً، وذلك عند صاغ لسانيات الخطاب، وربما أراد بها شعرية الخطاب: أي التي تحلل القصيدة باعتبارها كاشفةً عن اشتغال الإيقاع في الخطاب. أرهص بنفينيست بأن تقوم مثل هذه الشعرية، لكنه لم يؤسسها.
انطلاقاً من بنفينيست، يمكن ألا يكون الإيقاع مقولة فرعية للشكل، إنه تنظيم (ترتيب، تشكيل) للمجموع، وإذا كان الإيقاع يقع ضمن اللغة، وضمن الخطاب، فإنه تنظيمٌ (ترتيب، تشكيل) للخطاب، ومثلما لا ينفصل الخطاب عن معناه، يكون الإيقاع غير قابل للفصل عن معنى هذا الخطاب. فالإيقاع تنظيم للمعنى داخل الخطاب، وإذ هو تنظيم للمعنى، فلن يكون قطّ مستوى متميزاً ومتجاوراً. المعنى يحدث داخل كل أنساق الخطاب وعبرها، ولا يمكن لتراتبية المدلول أن تكون إلا متغيّراً منها، تبعاً للخطابات والوضعيات. يمكن للإيقاع داخل الخطاب أن يحوز أكثر من معنى غير معنى الكلمات، أو معنى آخر. ويمكن للتنغيم «ما فوق المقطعي» الذي فصله اللسانيون قديماً عن المعنى، أن يحوز أيّ معنى، أكثر من الكلمات نفسها. ليس تراتب المدلول هو ما يتزعزع من مكانه وحسب، بل «التقسيمات التقليدية» كما قال بها سوسير: التركيب، المعجم.. فالمعنى ليس مدلولاً، وليس ثمة أكثر من مدلول. ما يوجد إلا الدوالّ، أي الأسماء الفاعلة لفعل دلَّ.
داخل نظرية الدليل، تكون اللغة أولاً، والخطاب ثانياً، ولا يمكن أن يترتب عنها سوى ذلك. فالخطاب يكون داخلها مجرد استعمال للأدلة، واختياراً، وسلسلة من الاختيارات داخل نسق الأدلة الموجود سلفاً. ولا يمكن للذات المتكلمة في علاقتها باللغة أن يكون لها سوى تحديد نحوي: التحديد الذي يعرضه هذا الاختيار، من هنا الأسلوب والأسلوبية. مع هذا التحديد النحوي ينطبق التحديد الاجتماعي للماركسية، الذي جعل من الفرد صنيعة العلاقات الاجتماعية. وعن طريق الاختيار أو في غيابه، يغدو الفرد – الذات نفسه صنيعةً لأنساق الأدلة حيث العلاقة الاجتماعية فرع منها. ولهذا، فالماركسية ليست متوافقة مع نظرية الدليل، وحسب، بل تؤسس نتاج نظرية الدليل وتمامها.
داخل نظرية الإيقاع التي جعلها بنفينيست ممكنةً، لا يكون الخطاب استعمالاً للأدلة، بل فعالية الذوات داخل وضدّ التاريخ، والثقافة، واللغة التي ليست سوى خطاب وحسب، حيث يبدو تعريف اللغة أساساً نحوياً، وعلاقة راسخة تربط المحور التركيبي بالمحور الاستبدالي على نحو يستعيد المقولات القديمة ويعيد تقطيعها. وبما أنّ الإيقاع تنظيم للخطاب، وللمعنى بالنتيجة، فهو يعيد إلى الواجهة الوضوح التجريبي الذي ليس له من معنى إلا عبر الذوات ولها، حيث يقيم المعنى في الخطاب، وليس في اللغة. وأما مفهوم (وميزة) المدلول فإنه ينتج عن الوصف، بل يقصي المعنى، من حيث أثره ورهانه. وقد يكون شكل بلومفييلد هو الشكل المحدد لمثل هذه اللسانيات، والأكثر انسجاماً مع وجهة نظرها التي تقصي المعنى.
يكون الإيقاع داخل المعنى وداخل الذات، والذات والمعنى داخل الإيقاع يجعلان من الإيقاع تشكيلاً للتلفظ بقدر ما للملفوظ. لهذا السبب، فالإيقاع هو الدالّ الأكبر Le signifiant majeur، يشتمل إلى جانب الملفوظ، ما تحت- المفهومي وما تحت- اللساني.
تذويت الإيقاع
وإذا كان المعنى هو فعالية الذات، وكان الإيقاع تنظيما للمعنى داخل الخطاب، فإنّ الإيقاع هو بالضرورة تنظيم أو تشكيل الذات داخل خطابها، وبالتالي فنظرية الإيقاع داخل الخطاب هي نظرية الذات داخل اللغة، ولا يمكن أن توجد نظرية للإيقاع دون نظرية الذات، ولا نظرية للذات دون نظرية الإيقاع. واللغة هي مبدأ الذات، المبدأ الأكثر ذاتيّةً، ومن ثمّة فالأكثر ذاتيّةً بدوره هو الإيقاع. هكذا، فإنّ نظرية اللغة هي الميدان المُميّز لنظرية الذات، وربما أكثر من التحليل النفسي الذي أفاد بدوره مثل هذه النظرية، بالنسبة إلى الماركسية، أو الأنثروبولوجيا عامة. مثل سارتر في «أسئلة المنهج» و»أبله العائلة». وتتجلى الفائدة الأنثروبولوجية للأدب وأثر مختبرها الاجتماعي، من وجهة النظر هذه، في عرض اشتغالات الذات حيث المجتمع نفسه يُعرض من خلالها. وبالتالي، فإن نظرية الخطاب والذات هي نظرية الأدب أكثر من غيرها، ولربّما كانت نظرية الأدب هي آخر شيء سمح فرويد باكتشافه.
إن الذات شبيهة بأصل اللغة، يُبحث عنها كما لو كانت متوارية بشكل غير محدود. ما من شيء لا يتوارى داخل اللغة. وكما الأصل، فالذات تحدث داخل كُلّ الأفواه والآذان باستمرار. هي اشتغال اللغة نفسه، وأنا التلفظ المتبدّل. وبعبورها من المحور اللساني إلى الأدب، تمتدّ الذات من استعمال عوامل التلفظ إلى الانتظام في نسق الخطاب كُلّه. إن ذات التلفظ علاقة، وجدل الفردي والجمعي. إنها مفهوم لساني، وأدبي، وأنثروبولوجي، ولا يلتبس مع مفهوم الفرد الذي هو بدوره ثقافي وتاريخي يرجع إلى تواريخ التفرد. فالذات جامع لساني غير تاريخي: ثمة دائما ذات حيث توجد لغة. من هنا تاريخ العلاقات بين الذات والفرد، وتكون ذات الخطاب تاريخيةً، اجتماعيا وفرديا.
إن الكتابة وهي تعرض الحالة السياسية للذات داخل المجتمع، تظهر وتجعل من الذات الكاتبة ذاتا عابرة، لكن ليس ثمة من ذات في الكتابة إلا عندما يكون هناك تحوّلٌ لهذا الذات إلى ذات لإعادة التلفظ. كما أنّه ليس هناك من معنى إلا عبر الذوات ولها، ولا من إيقاع إلا عبر الذوات ولها. فعلاقة الإيقاع بالمعنى وبالذات داخل الخطاب، إنّما تحرر الإيقاع من مجال العروض، ولا يمكن أن ننطلق من البيت (المتماهي مع الشعر) كما يتمّ ذلك عادةً، لدراسة الإيقاع، بل من الخطاب العادي وفي جميع الخطابات. وتسلم نظرية الإيقاع بأن الشعرية تريد ما تريده نظريتها للغة العادية. وإنه من الصعب، بلا شك، التنظير للنثر مثلما للشعر. ومنظورا إليه في المحور الاستبدالي والمركبي للخطاب، يخلق الإيقاع والمعنى والذات علمَ دلالة مُعمّما، وظيفة مجموع الدوالّ، التي هي الدلاليّة La signifiance.
مبدأ أنثروبولوجي
يكون الإيقاع داخل المعنى وداخل الذات، والذات والمعنى داخل الإيقاع يجعلان من الإيقاع تشكيلاً للتلفظ بقدر ما للملفوظ. لهذا السبب، فالإيقاع هو الدالّ الأكبر Le signifiant majeur، يشتمل إلى جانب الملفوظ، ما تحت- المفهومي وما تحت- اللساني. فالإيقاع ليس دليلاً، والخطاب كما يظهر لا ينتج من الأدلة وحسب، بحيث يتجاوز نظرية اللغة كما نظرية التواصل بالقدر ذاته، طالما أن اللغة تستدعي التواصل والأدلة، بل الأفعال كذلك، والمبدعين، والعلاقات بين الأجساد، والظاهر- الخفي للاشعور، وكلّ ما لا يعود إلى الدليل ويجعلنا ننطلق من صيغة إلى أخرى. ولا يمكن أن توجد سيميوطيقا الإيقاع، فالإيقاع يخلق سيميوطيقا مضادّة. ويظهر أن القصيدة لا تنتج من الأدلة، مع أنها لسانيّاً لا تتركب إلا من أدلة. القصيدة تعبر الأدلة، ولهذا يعتبر نقد الإيقاع نقيض السيميوطيقا.
إن الإيقاع داخل القصيدة خصوصاً، يعقد نظرية الدليل، ليس لكونه يمنعها من الاشتغال، فهي تشتغل تماماً من الرواقيين إلى أيامنا. بيد أنها تشتغل ليس بوصفها نظرية لسانية للدليل وحسب، بل بوصفها كذلك تداوليات الدليل وسياسته. فهي ترعى كلّ ذلك بدءا من الأداتية، والدولة، ومن العقل والمصلحة العليا، وما به تتقوّى السياسات المتمركزة للسان. ولا يمكن للدولة أن تحوز نظرية أخرى في اللغة غير الأداتية. لهذا، فالبنيوية وعت بشكل جيد نظرية الدليل. لا يمكن لهذه الأخيرة إلا أن تقصي القصيدة كانزياح، أو ضدّ ما هو اعتباطي. وهذا الإقصاء هو بدوره عبادة وبذخ وعيد، يُظهر أنّ الإيقاع والذات والقصيدة ليس لها الرهان نفسه، رهان الأنثروبولوجيا التاريخية للغة التي لها معنى سياسي كذلك، فيما هي تعطي الأسبقية للخطاب، أي للمتعدد داخل التجريبي، والجدلية اللامحدودة للذوات والدولة. التاريخانية والتعددية متعاضدتان.
وإذن، فإن الإيقاع مبدأ أنثروبولوجي أساسي داخل اللغة، أكثر من الدليل: ما دام أنه يتجاوز نظرية الدليل، ويمتدّ إلى نظرية الخطاب. وإذ يفيض بالأدلة، يشتمل الإيقاع على اللغة مع كل ما يمكن أن تتضمّنه من بُعدٍ جسديٍّ Corporel ويضطرّ للعبور من المعنى بوصفه كلية – وحدة-حقيقة، إلى المعنى الذي ليس لا كلية ولا وحدة ولا حقيقة: لا توجد وحدة إيقاعية، وإنما تكون الوحدة الوحيدة هي الخطاب بوصفه تدوينا للذات أو الذات نفسها، ولا يمكن لهذه الوحدة أن تكون إلا شذرية ومفتوحة وغير محددة.
كاتب مغربي
“القدس العربي”