على أرض الأرجنتين، منبع التانغو ومهده الأصيل، نبغَ الكثيرون في هذا الفن، بفروعه الموسيقية والغنائية والراقصة والشعرية، فالتانغو ثقافة إنسانية ثمينة، يحملها الأرجنتيني بين جنبات نفسه، ومساهمة حضارية مهمة يقدمها إلى العالم فخوراً، ومن بين هؤلاء النوابغ، الموسيقار وعازف الباندونيون آستور بيازولا 1921- 1992 الاسم اللامع في موسيقى التانغو، المرتبط بها أشد الارتباط، وقد يكون الاسم الأهم بعد كارلوس غارديل، الذي يليه مباشرة في الشهرة العالمية والذيوع والانتشار. فكما أن كارلوس غارديل هو صاحب أشهر أغنيات التانغو، التي يسمعها الكثيرون في كل أنحاء العالم، فإن لآستور بيازولا أيضاً، أكثر من معزوفة تألفها الآذان وتعرفها جيداً، وربما تكون هي كل ما سمعه البعض من موسيقى التانغو، وإن لم يعرفوا إنها من مُلحنّات بيازولا، فموسيقاه تسبق شخصه، وهي من تقدم هذا الشخص إلى الجمهور وتقوده إليه، لمعرفة المزيد عنه، وعن عناصر النبوغ الموسيقي في أعماله.
آلة الباندونيون
يؤلف بيازولا موسيقى التانغو الخاصة به، ويعزف على آلة الباندونيون، وهي الآلة التي تميز موسيقى التانغو، وتفرقها بوضوح عن الألوان الموسيقية الأخرى. تتشابه هذه الآلة مع الأوكورديون إلى حد ما، وتختلف عنه في بعض الأمور التقنية، وهوية الصوت وطابعه المتفرد. ويقال إن النسخة الأولى من آلة الباندونيون في طورها البدائي، ظهرت في ألمانيا، وتحديداً في الكنائس غير القادرة على توفير آلات الأرغن الموسيقية. وكما هاجر الكثير من الأوروبيين إلى الأرجنتين قديماً، هاجرت آلة الباندونيون معهم أيضاً، وهناك اكتملت مراحل تطورها، وصارت أحد المكونات الأساسية التي شكلت التانغو، كفنٍ تَخلّق في مجتمع متنوع، اختلط فيه السكان الأصليون مع مهاجرين من بلاد أخرى، وامتزجت ثقافتهم الأرجنتينية الخالصة، مع ثقافات أوروبية وافريقية، ولعل هذا من أهم أسباب قوة التانغو، التي تحقق له هذه الاستساغة العالمية الواسعة، والقبول والألفة التي يشعر بها أغلب المتلقين، عند سماع موسيقى التانغو ومشاهدة رقصاته، ذلك أن المرء يجد دائماً في التانغو، شيئاً ما يلامس وجدانه، ويثير مشاعره ويحرك أفكاره، كأنه يخاطب في النفس ذلك الجانب الإنساني العام، على العكس من بعض الفنون المحلية في بعض الدول الأخرى، التي يصعب على الأجنبي غير الملم بثقافة تلك الدول، أن يتذوقها، أو أن يقترب من أبعادها الوجدانية، ناهيك من اكتشاف جمالياتها الخاصة.
مع التانغو لا حواجز ولا صعاب، فهو يفتح ذراعيه للجميع، لينطلق بهم في رحلة من الجمال والإثارة والشغف، رحلة مشحونة بطاقات هائلة من الحيوية، والمشاعر الحارة والجاذبية الآسرة. كان بيازولا يعزف على تلك الآلة الأساسية في موسيقى التانغو، وكان له أسلوبه الخاص في العزف عليها، سواء من الناحية التقنية، أو وضعية العزف. فالوضع الذي يتخذه العازف أثناء العزف على آلته، يكون له تأثيره في التكنيك في النهاية. والوضع التقليدي للعزف على آلة الباندونيون، هو الجلوس والإمساك بها بكلتا اليدين، لتكون في مواجهة الصدر أو أسفله قليلاً، مع الدعم بالساقين أو الركبتين. أما بيازولا فكان يعزف واقفاً، رافعاً ساقه اليمنى فوق مقعد أو منضدة، لتكون هي الساق الداعمة للباندونيون، بينما توجد بين ذراعيه، تمسك كل يد بطرف من طرفيها، لتتحكم في نغماتها المرتفعة والمنخفضة.
مجرد مشاهدة هذه الآلة أو سماع صوتها، يعني على الفور الانتقال إلى عالم التانغو، حتى وإن كانت الأغنية عربية، فإنها تانغو أيضاً، وإنه أثر التانغو الذي ألهم الموسيقيين شرقاً وغرباً، فاستوحوا من أنغامه وإيقاعاته ألحاناً، لم تُفسد الروح الأصلية لعمل من استلهمها، بل زادته سحراً وجمالاً.
مجرد مشاهدة هذه الآلة أو سماع صوتها، يعني على الفور الانتقال إلى عالم التانغو، حتى وإن كانت الأغنية عربية، فإنها تانغو أيضاً، وإنه أثر التانغو الذي ألهم الموسيقيين شرقاً وغرباً، فاستوحوا من أنغامه وإيقاعاته ألحاناً، لم تُفسد الروح الأصلية لعمل من استلهمها، بل زادته سحراً وجمالاً. تماماً كما حدث مع محمد عبد الوهاب، في أغنية «سَهرتُ منه الليالي»، التي قدمها في فيلم «دموع الحب» سنة 1935. وهو أحد الكنوز السبعة التي تركها محمد عبد الوهاب للسينما المصرية، من أفلام غنائية تحفظ ذكرى المجد والجمال والفن الخالد. في مقدمة هذا الفيلم تظهر صورة مصطفى لطفي المنفلوطي، في زيه الأزهري الكامل، فهو من قام بتمصير قصة الفيلم المأخوذة عن قصة فرنسية، وإلى جانب اسم المنفلوطي، توجد أسماء أخرى من صفوة مبدعي مصر، منهم مؤلف أغنية أو قصيدة «سَهرتُ منه الليالي» حسين شوقي ابن أمير الشعراء أحمد شوقي، وهو إن لم يكن غزير الإنتاج، فإنه كان أديباً رائعاً، رقيق الحس والكلمة، وصاحب أسلوب بديع شيّق في كتابة الشعر والقصة والمقالات. قام محمد عبد الوهاب بتلحين قصيدة «سَهرتُ منه الليالي» على نمط التانغو، وأظهر آلة الباندونيون، حيث كان يُمسك بها أحد العازفين الجالسين خلفه وهو واقف يغني، هكذا أدخل عبد الوهاب التانغو إلى الموسيقى المصرية، وجعل المصريين يستمعون إلى صوت تلك الآلة الجديدة الغريبة عنهم، ويتعرفون عليها ويرونها أيضاً ربما للمرة الأولى في فيلم «دموع الحب».
رافقت هذه الآلة آستور بيازولا طوال مسيرته الفنية، منذ ان أمسك بها للمرة الأولى في طفولته، فهي من قادته إلى التانغو وألهمته مُلحنّاته، وصارت جزءاً كبيراً من شخصيته الفنية، يراها المرء دائماً معه في أغلب صوره المشهورة، كأنه لا يفارقها ولا تفارقه. يبرز صوتها في مؤلفاته، وسط أصوات آلات موسيقية أخرى، وينفرد بها أحياناً ارتجالاً أو اتبّاعاً للحن الأساسي، وحينئذٍ تتجلى مهاراته في العزف على الباندونيون، ومدى تمكنه من استخدام القدرات الصوتية لهذه الآلة. ويمكن القول إن صوت الباندونيون هو الذي يعكس الروح المثالية للتانغو، إلى جانب الإيقاع العام بطبيعة الحال.
مزج بيازولا بين موسيقى التانغو والموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز، في مجموعة كبيرة من أعماله، وذهب إلى الموسيقى الإلكترونية، في فترة قصيرة من مسيرته الفنية لم تدم طويلاً، يؤلف بيازولا الموسيقى البحتة، ويلحن الأغنيات.
تحديث التانغو
يُعرف آستور بيازولا بأنه مُحّدث التانغو في الأرجنتين، وإنه من صنع ما يسمى بالتانغو الجديد. ودائماً هناك ذلك الفرق الشاسع بين التحديث والتغريب، فهو قام بتحديث موسيقى التانغو، والذهاب بها نحو الأمام، وجْعلِها عالمية الطابع، بتقوية عناصرها الفنية والجمالية، لتستطيع أن تقف جنباً إلى جنب مع أقوى الأنواع الموسيقية، وأن تتحاور معها. وفي الوقت نفسه لا يُشعر المستمع بأن موسيقى التانغو قد باتت غريبة عنه، وأنه لم يعد يعرفها، أو غير قادر على تذوقها والاستمتاع بها، بل إن المستمع غير العليم بأدق خصائص موسيقى التانغو، قد لا يشعر بأن موسيقى بيازولا تنتمي إلى التانغو الجديد، لا التانغو الأرجنتيني التقليدي، فهو أثناء السماع لا يفتقد الإيقاع المحبب الرائع، والميلودية الجميلة، والأفكار الموسيقية الواضحة الجذابة. أما ما فعله بيازولا من أمور تقنية وفنية تحديثية، بحكم دراسته الأكاديمية للموسيقى في فرنسا، فإنه لا يُحمّل المستمع هذا العبء الأكاديمي، ولا يوصل إليه سوى الجمال النهائي، الناتج عن جهوده هو الخاصة، ويحرص على أن يكون هذا الجمال ساطعاً، يستطيع أن يتذوقه المستمع بسهولة على اختلاف مستويات التلقي.
مزج بيازولا بين موسيقى التانغو والموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز، في مجموعة كبيرة من أعماله، وذهب إلى الموسيقى الإلكترونية، في فترة قصيرة من مسيرته الفنية لم تدم طويلاً، يؤلف بيازولا الموسيقى البحتة، ويلحن الأغنيات، ومن مراحله الفنية المهمة مرحلة المغنية الأرجنتينية أميليتا بالتار، التي لحن لها بيازولا الكثير من الأغنيات، وكان يعزف على الباندونيون في الفرقة الموسيقية المصاحبة لها. كان بيازولا يُعبّر بالأنغام من وحي إلهامه الخاص، وأفكاره التي يريد أن يعلن عنها موسيقياً، وكان كذلك يُعبّر عن أفكار غيره من المبدعين، فقد اشتبك فنياً مع الشعر، ومع قصائد أكبر شعراء الأرجنتين، وعلى رأسهم خورخي لويس بورخيس، حيث أصدر بيازولا ألبوم التانغو El Tango الذي يحتوي على موسيقى مستوحاة بالكامل من قصائد بورخيس، ويتخلل هذه الموسيقى إلقاء الموسيقى إما بصوت بورخيس نفسه، أو بصوت مبدعين آخرين، وعنوان الألبوم هو عنوان قصيدة من قصائد بورخيس أيضاً.
وقام بيازولا أيضاً بتلحين أوبريت، أو أوبرا مصغرة، بعنوان «ماريا دي بوينس آيريس»، ومن أشهر أغنيات هذا العمل التي حققت نجاحاً وسماعاً منفرداً، أغنية «أنا ماريا من بوينس آيريس»، وهي أغنية جميلة حقاً لحناً وإيقاعاً، كما أنها تتناول التانغو نفسه، وتذكر آلة الباندونيون على لسان ماريا، راقصة التانغو التي تُمثّل قوة الأنوثة والغواية. تقول ماريا في بعض مقاطع الأغنية: «أنا ماريا من بوينس آيريس، ألا تعرف من أنا؟ ماريا التانغو، ماريا الليل والعشق الفتّاك». كما تصف روعة رقصها، عندما يثيرها صوت الباندونيون ويحرك جسدها، وتقول إنها تغني التانغو كما لم يغنه أحد من قبل، وتبدو فخورة بإغوائها للرجال، الذين يسقطون أمام جمالها بلا أي مقاومة، وسعيدة كذلك بغيرة الفتيات الأخريات منها.
تتمدد آلة الباندونيون بين يدي بيازولا، وقد يتخذ جسمها شكلاً نصف دائري أو أفقي متعرج، ثم تعود لتنكمش قليلاً، ومع كل تمدد وانكماش يتسع صوتها وتتنوع نغماتها. وعندما يُسمع صوتها منفرداً، قد يُخيّل للسامع في بعض اللحظات، أنه يُصغي إلى صوت آلتين لا آلة واحدة، بسبب هذا التنوع الصوتي، والتقابل بين النوتات المرتفعة والمنخفضة. وسماع هذه الآلة في أنواع مختلفة من مؤلفات بيازولا، يُظهر قدراتها الفنية ومرونتها في التعبير، فعندما تكون مع الأوركسترا السيمفوني في مقطوعة وداعاً جدي Adiós Nonino على سبيل المثال، تبدو قوتها كقائدة لبقية الآلات الموسيقية، من وتريات وهارب ونحاسيات وآلات إيقاعية، حيث تتبعها هذه الآلات، وتواكبها، أو تتوقف لتستمع إليها في لحظات الانفراد. تعد هذه المقطوعة من أجمل مؤلفات بيازولا، التي مزج فيها بين التانغو والموسيقى الكلاسكية، بين فنه الأرجنتيني الذي يجري في دمه ويسكن روحه، والفن الأوروبي أو العالمي بقواعده الراسخة، تبدأ المقطوعة بعزف بيازولا المنفرد على الباندونيون، وتتميز بثيماتها البديعة التي لا يمل المستمع من تكررها، ويجذبه هذا التناغم الطبيعي غير المصطنع بين التانغو والكلاسيك. أما التانغو والجاز فيجمعهما ألبوم ساعة الصفر Zero Hour الذي كان بيازولا يعتبره أفضل أعماله، ويضم هذا الألبوم مجموعة من مقطوعاته المشهورة كمقطوعة ميلونغا الملاك Milonga del Ángel، ومن الأغنيات الرائعة التي لحنها بيازولا للمغنية الأرجنتينية أميليتا بالتار، أغنية الدرّاجة البيضاءLa bicicleta blanca، وهي قصيدة للشاعر الأرجنتيني هوراشيو فيريه، عن درّاجة بيضاء يقودها رجل نحيل مسكين، وتدور أبيات هذه القصيدة وفق ما هو متوفر من ترجمات لكلماتها، حول معاني الإيمان، ومحاولة تحقيق الخير والقضاء على البؤس، وتحتوي على بعض الصور الشعرية، التي أعاد بيازولا رسمها بالموسيقى، وعبرت بالتار بصوتها عن درامية القصيدة ومشاعرها الإنسانية.
يتميز رقص التانغو ببعض الحركات الأساسية الثابتة، أو اللزمات الراقصة التي تتكرر من رقصة إلى أخرى، كما يعتمد هذا النوع من الرقص على الارتجال في بعض الأحيان، ويجمع التانغو بين الاندفاع والخفة والرقة والقوة، وتتنوع فيه الحركة كما يتنوع الإيقاع في موسيقى التانغو.
بيازولا ورقص التانغو
كان آستور بيازولا يريد أن تكون موسيقى التانغو للسماع، أكثر مما هي للرقص، وعلى الرغم من ذلك فإن بعض مؤلفاته، صارت من أشهر مقطوعات التانغو التي يتم الرقص على وقعها، كمؤلفات سلفه كارلوس غارديل، صاحب أشهر أغنية تانغو تصاحب الرقص عادةً، وهي أغنية Por una cabeza التي يسمعها المتلقي وهو يشاهد المشهد الشهير، الذي مثله آل باتشينو في فيلم «عطر امرأة»، عندما كان يرقص التانغو. ولا يخفى أن رقص التانغو من أكثر أنواع الرقص جاذبية في العالم، والتانغو رقص ثنائي بين رجل وامرأة، فيه حوار شيّق مثير، يحث الجمهور على التفاعل معه، والتعبير عن الانبهار بصيحات الإعجاب أحيانا، وإظهار التأثر باللحظات الأكثر اشتعالاً في الرقص، فالتانغو الأرجنتيني يُرقَص في شكله التقليدي، وسط الجمهور الذي يتربع جالساً على الأرض، ويتحلق حول الراقص والراقصة، في دائرة كاملة أو شبه كاملة.
يتميز رقص التانغو ببعض الحركات الأساسية الثابتة، أو اللزمات الراقصة التي تتكرر من رقصة إلى أخرى، كما يعتمد هذا النوع من الرقص على الارتجال في بعض الأحيان، ويجمع التانغو بين الاندفاع والخفة والرقة والقوة، وتتنوع فيه الحركة كما يتنوع الإيقاع في موسيقى التانغو. وتعد مقطوعة التانغو الحر Libertango لآستور بيازولا، من أشهر المقطوعات التي يرقص عليها أمهر راقصي التانغو في الأرجنتين، فقد وضع فيها بيازولا من خلال تتابع النغمات، تلخيصاً مكثفاً لفكرة التانغو كفن ينشد الحرية، أو يمارسها بالفعل. تبدو هذه القطعة الموسيقية كشعر تحكيه الموسيقى، بتعيراتها النغمية الحادة الثائرة، عندما ترتج الموسيقى وتعتمل داخلها الرغبات، ما يكون له الأثر على الراقص والراقصة، ويتيح لهما ممارسة التانغو بأدق خصائصه، في إيماءات وحركات، تدل على الإغواء والغزل، والصد أحياناً والاستجابة والاستسلام في أحيان أخرى. وتهادي الجسد مع النغمات عندما تكون بطيئة متأملة، والتصاعد الحركي معها عندما تصل إلى أعلى ارتفاع لها، قبل أن تبدأ بالهبوط مرة أخرى، وهذا التواصل المستمر بين الراقص والراقصة، التي تستجيب لخطواته، ويتبع جسدها إيقاع جسده، وتتشبث به جيداً، عندما تميل على ذراعه، فيحميها من السقوط مهما اقتربت من الأرض. هذا الوضع أو تلك الحركة من أبرز المعالم التقليدية المألوفة في رقص التانغو، يشاهدها المتلقي في الكثير من الرقصات عموماً، وكذلك في الرقصات التي تصاحب مقطوعة التانغو الحر لبيازولا، مع بقية الحركات المشهورة، من الدوران والتباعد والتقارب، وتقريب الجبهتين، ورفع الرأس أو إمالتها قليلاً، وكذلك رفع الذراعين، وتقارب قدمي كل منهما نحو الداخل، وإلى ما هنالك من عناصر تخلق هذا السحر المنفلت من التانغو.
كاتبة مصرية
“القدس العربي”