بات من الصعب اليوم فصل الاشتباكات والصراعات الداخلية بين فصائل الجيش الوطني، من جهة، وبين طموحات “هيئة تحرير الشام” بالهيمنة على المناطق المحررة في الشمال السوري بأسرها، من جهة ثانية. هل أنتجت أو أججت الطموحات هذا الصراع أو أنتجته بالكامل؟
الاغتيال المريب للناشط محمد عبد اللطيف (أبو غنوم) في مدينة الباب، ومن ثم اثبات تورط عناصر من “فرقة الحمزة” فيه، وملاحقتهم، تُؤشر لتصدع قابل للاشتعال. “الجيش الوطني” ليس كتلة صلبة ومنصهرة، بل هو عملياً مجرد شعار فارغ لمجموعة فصائل متصارعة تُمثل شرائح مختلفة. وحتى الدولة الراعية لهذا المشروع، أي تركيا، أقرب اليوم للتخلي عنه نتيجة الصداع المتواصل والمتأتي منه. وربما علينا، لفهم الخطوات المقبلة، درس الآمال الأولى لأنقرة في “الجيش الوطني” والمنطقة التابعة له، وأساسها ارساء بعض الاستقرار الأمني والاقتصادي، بما يُمهد لعودة جزئية للاجئين السوريين.
لم ولن يحصل ذلك في ظل هذا المشروع، بل بالعكس، يبعث الجولاني نفسه إشارات الى استقرار ونمو اقتصادي في مناطقه، وكأنه يقول لأنقرة “أنا الجيش الوطني الذي كنت تطمحين اليه”. وهو كذلك الأقدر على مواجهة “قوات سوريا الديموقراطية”، وايلامها، بما أن الجولاني يعرف من أين تُؤكل الكتف في أنقرة. وهذه أوراق اعتماد جاذبة قد تحفر طريقاً واسعاً داخل “العدالة والتنمية” الحاكم ووسط أزلامه في أروقة الأمن والعسكر.
ومن المناسب للهيئة تصميم المعركة في شكلها الحالي، أي المواجهة بين “الفيلق الثالث” ونواته من الجبهة الشامية، من جهة، وبين فرقة الحمزة (الحمزات) وفرقة السلطان سليمان شاه (العمشات)، من جهة ثانية. ذاك أننا اليوم أمام مواجهات داخلية كلما استدامت، ارتفعت وتيرة التسرب إلى صفوف الهيئة من خلالها، وهذا يتطلب احترافاً أمنياً لم يعد غائباً عن ترسانة أسلحة تنظيم الجولاني. الاحتراف هو في تعزيز هذا الصدع، وإقناع أحد أطرافه بسلوك طريق التحالف مع الهيئة، رغم أنها معروفة بابتلاع حلفائها قبل خصومها.
والأهم في كل ذلك أن الوقت عامل أساسي في هذه المعادلة. ذلك أن الهيئة، وبعد نجاحها في السيطرة على عفرين، وفي ظل احتدام الصراع بين الفصائل الأخرى، تجعل نفسها محور استقطاب وقوة لعناصر من مجموعات مختلفة، كونها الأقدر على حماية العناصر الجديدة.
يبقى أن موجة النزوح وهي تتعاظم حالياً مع ارتفاع حدة المعارك، مؤثرة ربما أكثر من أي عامل آخر، بما أن موعد الانتخابات العامة التركية هو العام المقبل، ولا مصلحة للإدارة التركية بمواجهة واسعة في الوضع الحالي. اشتباكات الأيام الماضية تسببت بحركة نزوح بين المدنيين في مناطق متفرقة شمال حلب، وتحديداً من مخيمات النازحين على الخط الفاصل بين مناطق نفوذ “تحرير الشام” والفصائل المناوئة لـ”الجيش الوطني السوري”.
إذا أسفرت اشتباكات أيام معدودة عن نزوح الآلاف، فماذا لو اتسع نطاق المواجهة ومدتها الزمنية؟ المنطقة في نهاية المطاف مقر للاجئين، وهم أغلب سكانها، وتركيبة الفصائل تعكس مروحة من الهويات المحلية، وبالتالي فإن أي حرب واسعة ستُنتج موجة لجوء كبيرة (ضحاياها بمئات الالاف)، بما ينعكس سلباً على تركيا وانتخاباتها المقبلة. لهذا، الأرجح أن المعركة ستتوقف في المرحلة الحالية، وستعتمد الهيئة على عامل الوقت وتعزيز الخلافات بين الفصائل لرفع وتيرة الاهتراء في صفوفها وضم العناصر اليها.
صحيح أن الجولاني كسب معركة عفرين، لكن الغنائم الأكبر ستأتيه بالتقسيط وبلا أكلاف سياسية، ومن دون إراقة الكثير من الدماء والذخائر.
“المدن”