ثمة خلل يصيب المكان حين يغيب الشعراء، ليصعق الأشياء التي كانوا بالقرب منها، فالورق الذي يكتب عليه يصفرّ، والقلم يأخذ بالذبول، والضوء يشحّ، وشيئاً فشيئاً يعتم، كل غياب لشاعر هو زلزلة للمكان، وخضّة للواقع وهزّة للمحيط الذي كان فيه. ففي الشاعر يكمن الرسام والمغني والمصور والموسيقي، ومن هنا يأتي اغتناء الشاعر، فمخيّلته مترعة بالصور، غنية باللحن والصورة، ومفعمة بالإيقاع والتلاوين العذبة للمستويات الموسيقية، والمَدَيات اللونية، وهي تموج في باطن القصيدة، وتحتويها كنسيج متداخل في شعابها الداخلية.
يسقط الشعراء ويموتون ويختفون فيزيولوجياً، لكنهم يحيون في مكان آخر، يحيون في ذاكرة الآخر، وفي جزء من وعيه، وينامون في طيّات المشاعر والأحاسيس ومظان الآخر، ذاك الذي يعي القيمة الجمالية للفن الشعري، وبعده التاريخي في الذاكرة الجمعية.
يسقط الشعراء وينطفئون، لكنهم يحيون بين سطور العمل الشعري، وفي مسالك ودهاليز الكلمات، ليأتلقوا هناك في جوف القصيدة وعمقها، وفي باطن المعاني، وسحر بيانها ونواياها، وتعدد دلالاتها، ينطفئون جسدياً، والموت حق كما يقال، لكنهم الوحيدون الذين سيعيشون رمزياً بيننا، لكي يشيروا إلى الخطل ليتقوّم، إن شاءوا المقدرة على التقويم، ويُدلّوا إلى الشر، حين يطغى ويصبح هو السائد والعادي، وإلى العنف حين يغدو ديدناً، والكراهية حين تُمسي هوية، وإلى العبودية والنهب والفساد والقهر والطغيان، حين يتسيّد المشهد ويغدو الوجه المثالي للحياة الجارية الآن.
يسقط الشعراء هنا وهناك، بيد أنهم يطلون بين حين وحين، بعد الغياب على شكل كلمة «لا» التي تمسكوا بها في حياتهم ورافقتهم إلى مثواهم، لكن الـ»لا» هذه ستنهض في لحظتها، وزمانها متحدّية الأوقات، والأزمنة، هذي التي ستتوإلى وتمرّ بعد غيابهم، تنهض في وقت المحن والمصائب والجائحات لتعترض الطريق، على من يريد أن يجعل من الشر نوعاً من الصيغ السلمية، عبر التحايل على البشرية، بالألفاظ ونمط التفكير الجهنمي، الذي يسعى إلى أن يحوّل نشارة الخشب إلى رز وطحين، والحب إلى نوع من نسق غارب، والود والحنان والسعادة إلى رموز بالية، على أنها نتاج زمن قديم، وقد طواها زمان ما بعد الحداثة!
في ضوء هذا الكلام، لقد شهد العامان الأخيران غياب عدد من الشعراء العرب الكبار، وعدد من الشعراء الموهوبين والنابهين، أولئك الذين أثروا المشهد الشعري العربي بالغنى والتنوع والثراء الإبداعي. أخذ الموت من العراق حصته الكبيرة، فقد طوى الشاعر العربي الكبير سعدي يوسف، المجدد الثاني بعد السياب للقصيدة العربية، وفاتح آفاق مختلفة لها بعد جيل الرواد العراقيين، السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، ثم جاء دور حسب الشيخ جعفر الذي خطفه الموت، هذا الشاعر الذي تفرّد بنمط جديد من الكتابة، كانت وسماً له القصيدة المدورة. لقد أحببت حسب الشيخ جعفر، فقد كان يتميز بطبيعة الشاعر الناسك، الصامت والهادئ، والبعيد كل البعد عن الأضواء، وكذلك عن حقلي الكراهية والشماتة، وهو عكس صديقه سعدي يوسف، الذي كان لا يتورّع، حتى عن شتم من يتناوله الموت بعد موته بدقائق، كما حصل مع البياتي، أستاذه وفاتح طريق التجديد له، ومُيسّر طريقة الشعر اليومي في الشعر، إلى حيث أنساق الكتابة البسيطة غير المعقدة، وهي غير تلك المليئة بالأساطير كما كانت لدى السياب مثلاً. وقد شتم سعدي كل أصدقائه المقرّبين من الشعراء والأدباء العراقيين والعرب على حدّ سواء.
لقد شهد العامان الأخيران غياب عدد من الشعراء العرب الكبار، وعدد من الشعراء الموهوبين والنابهين، أولئك الذين أثروا المشهد الشعري العربي بالغنى والتنوع والثراء الإبداعي.
إلى جانب الشاعرين سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر، كان هناك الشاعر مظفر النواب الذي غاب عنا قبلاً في «الكوما» أو الغيبوبة لمدة ست سنوات، حتى وافته المنية هذا العام، وهو شاعر مثالي جمع النجومية بين الفصحى، والعامية العراقية، حتى ذاع صيته في كل المعمورة العربية، وقبله رحل عنا فوزي كريم، الشاعر المثقف نقدياً وموسيقياً، ناهيك من دوره في كتابة القصيدة المأساوية، الحزينة والمائلة إلى التأثيث الذاتي، وأحياناً إلى البعد الميتافيزيقي، الذي ينحو في بعض الأحيان إلى التجريد الشعري، وهي سمة أدونيسية، اكتسبها فوزي كريم مثله مثل بقية شعراء الستينيات العراقيين، رغم نقده للظاهرة الأدونيسية في ما بعد، في كتابه النقدي المثير للجدل «ثياب الإمبراطور».
بعد فوزي كريم تناول الموت الشاعر المعروف سامي مهدي، وهو شاعر بارز ورائد في جيل الستينيات العراقي كنظيره الشاعر فاضل العزاوي، فكلاهما منظر، وناقد لجيلهما، وللأجيال السابقة لتجربتهما الشعرية الستينية.
ما يؤخذ على الراحل سامي مهدي هو غلّوه السياسي، وتمجيد عقيدته الحزبية، دون غيرها من العقائد، في العمل اليومي الوظيفي، وفي شأن الكتابة الإبداعية، والأنكى هو توظيف القصيدة لهذا المجال السياسي، رغم ميزته الشعرية، التي اتسمت بالكثافة والاقتصاد اللغوي والتعبيري، ذلك أن توظيف القصيدة لحساب السياسي، سيؤدي إلى قتلها، وهو حسب تصوّره الفني والشعري، كان يفكر بقتل الآخر عبر الكلمات الهجائية.
في سوريا انتهز الموت فرصته لينقض على الشاعر المرهف بندر عبد الحميد، وهو من أجمل الشعراء في التعامل اليومي، على الصعيد الشخصي، دماثة في الروح، وشفافية في الرؤى والتعابير، حَسِن المعشر، وجليس وسامر لا ينسى، على الصعيدين الشعري والشخصي.
في الوقت ذاته، ذهب الموت في اتجاه شاعر من جيل السبعينيات، هو الشاعر إبراهيم الجرادي، اتسم شعر الجرادي بالقصيدة الطويلة، المبنية على الكولاج وعلى التجريب، وخلط الفنون مع الشعر، وقد تجلت هذه الخصوصية في بعض تجاربه الشعرية اللافتة في منتصف السبعينيات والثمانينيات، والشاعر صديق قديم وصاحب مسامرات، وحكايا، ونديم له تفرّد خاص في الجلسات الشاعرية.
أما في لبنان فقد جال الموت بين الشعراء طويلاً، وراح ينتقي وعلى نحو عشوائي شعراء مُجيدين، ومُميّزين ولامعين في شأنهم الشعري، فبعد سنوات من غياب الشاعر محمد العبد الله، الشاعر المتمرّد والحسي، وصاحب النزوات، التفت الموت إلى الشاعرين، عصام العبد الله، وهو شاعر محكية ممتاز، ويعد الأفضل بعد ميشال طراد وطلال حيدر. إنه شاعر أنيس وصاحب مُلحة، ومُزاح يتسم بالدماثة، وجليس مقاه، أنيس ونادر، أصدر دواوين شعرية باللهجة المحكية اللبنانية في غاية العذوبة والرهافة، ثم لم يلبث الموت أن التفت إلى ابن عمه الآخر الشاعر حسن عبد الله، الذي تربطني به كعصام ومحمد العبد الله علاقة وثقى وقديمة، منذ أيام إقامتي في بيروت عام 1979، حيث كنا نلتقي في مقهى «الجندول» وحتى قبل مغادرته الدنيا، حيث كنت ألتقي صاحب «الدردارة» في المقهى دائماً أثناء زياراتي لبيروت، صيف كل عام مع الشلة، ولا أنسى ذلك اللقاء الفنطازي، ذات رحلة من بيروت إلى مدينة «صور» الجنوبية، صحبة الشاعر شوقي بزيع، وبسيارته، لنستريح خلال الرحلة، ذات ليل صائف، في قرية «الدردارة» التي يسكنها حسن عبد الله، وقد خلّد الشاعر قريته الشفافة في ديوانه الشعري الثاني «الدردارة» والقرية تنتسب إلى شجرة دردار كبيرة في القرية، أخذت اسمها منها، تيمّناً بينوعها وشساعتها وبظلالها الوفيرة. نزلنا في القرية إذن لغرض الاستراحة، ثم حتّم علينا الشوق والواجب الشعري المرور بالشاعر، فبعد شرب الشاي في البيت، ذهبنا إلى حانة القرية لنشرب شيئاً آخر.
وفي حمى الفقدان، هذا الذي لا ينفك يخطو ويجول، بردائه الأسود بين الشعراء، اقترب الموت فجأة هذه المرة، من الشاعر المؤثر والغنائي محمد علي شمس الدين، لينهي كل ما علق به، بعد أن كاد ينهيه قبل أكثر من عشر سنوات، حين فاتحني أثناء لقائي به في بيروت، وتحديداً في مكتبة «أنطون» حيث اعتدت أن أراه هناك، لنتحدث واقفين، فهو ليس رفيق ليل، أو جليس مقهى، مثلي ومن أمثالي من الشعراء، بل هو رجل منزلي، وموظف في دائرة للتقاعد، إذ حتى وهو يدخل الثمانين، ظل مواظباً على كتابة الشعر، ولم يتقاعد منه، بل كان صاحب حضور شعري لافت ومميز، من خلال إصداراته الشعرية العديدة، وهو إضافة إلى ذلك، صاحب جاذبية في القراءة الشعرية على المنبر، التقيته في مهرجانات شعرية عربية عدّة، كان آخرها على ما أتذكر في مهرجان» الرقّة الشعري» مع شلّة من الشعراء المبدعين، العرب والسوريين، وكان حضوره لافتاً في المهرجان.
كاتب عراقي
“القدس العربي”