عشتُ لحظات وجدانيةً عميقة، حين علمت، ذات صباحٍ من صباحات أيلول/سبتمبر بفوزي بجائزة العويس، فالقصيدة لم تذهب إلى المتاه إذن، كما قد يتوهم الشاعر ذلك، في لحظة من لحظات الضجر أو الإحساس باللاجدوى، أما في ذلك اليوم فقد تبين لي أن هناك من كان ينتظر مرورها في اللحظة المناسبة.
نقلتني تلك اللحظة إلى أكثر من ستين عاماً مضت. تخيلت خريف ذلك العام، يرافقني ذات نهار بعيد، للقاء المبدع جبرا إبراهيم جبرا. عبرنا معاً جسر الجمهورية، ودخلنا مبنى وزارة التخطيط، ثم وقفنا أمام مكتب جبرا متهيبين. صبياً كنت في بداية المرحلة الإعدادية آنذاك، وكان أقصى طموحي أن أجد قصيدتي الأولى منشورة في مجلة «العاملون في النفط»، التي كان يشرف عليها جبرا نفسه، أما أن أستلم، إضافة إلى ذلك، أربع نسخ هدية منه ومقابلا مادياً عنها، فأمر فوق طاقة التخيل بالنسبة لطالبٍ في تلك السنّ، وكنت كأنني أتلقّى، في تلك اللحظة، ثمن تأوهاتي، كما يقول سارتر، عن قصيدتي الأولى.
٭ ٭ ٭
ويمتد بي ذلك الخيط من الضوء والتوهم، حتى أمسيتنا هذه، يضيء ذاكرتي ويفسح لها الطريق لترى ما حدث في: قصيدتي الأولى، والنسخ الأربع من المجلة، هي مكافأتي النقدية الأولى وهي أول جائزة أتلقاها. غير أن احتفاء جبرا بي كان يعادل عالماً بأكمله. كانت اعترافاً بذلك الفتى عضواً في دنيا من المكابدات الجميلة، والاشتباك الشرس البهيج مع اللغة، ومع العالم، ومع ذاته أيضاً. ومنذ تلك اللحظة، أخذت القصيدة تكبر وتقترح مكافأتها التي بدأت تختلف من شاعرٍ إلى آخر وتأخذ أشكالاً عدة:
كان الشاعر سُحيم، ذو البشرة الداكنة والقلب المفتون بالمرأة، يجد في القصيدة مكافأةً تعوضه عن شرف اللون ونعمة الثراء:
أشعارُ عبدِ بني الحَسْحاسِ قُـمْنَ لهُ يوم الفخار، مقــامَ المـالِ والورقِ
إنْ كنتُ عبداً فنفسيْ حـرّةٌ أبـداً أو أسودَ اللونِ، إنّي أبيضُ الخُلُقِ
وكان الشاعر الأمريكي أرشيبالد ماكليش يعفي القصيدة حتى من مشقة المعنى:
ليس على القصيدة أن تعني
يكفيها أن توجد فقط ..
يا له من انتماء مطلق للجمال المنذور للجمال وحده !
أما أدونيس فلم يكن يرى للمبدع مكافأة أكبر من أن يكون مبدعا حقا، يزيد من سعة الأرض :
كن ألقاً وابتكرْ
قصيدةً، وامضِ،
زد سعة الأرضِ ..
وكانت عينا نزار قباني الزرقاوان تحلمان، منذ طفولته، بيومٍ تحتشد فيه الدنيا لقراءته:
كم نجمـةٍ حـرةٍ أمسكتها بيـدي وللتطـلّعِ، غيـري، مـا له عنـقُ
إني أضأتُ وكم خلقٍ أتوا ومضوا كأنّهم في حسابِ الأرضِ ما خلقوا
غـداً ستحتشدُ الدنيا لتقرأني ونخبُ شعري يدورُ الوردُ والعرقُ
٭ ٭ ٭
قد ينقل أعضاء لجان التحكيم ما كان حدساً أو حلماً لدى الشاعر إلى صلابة اليقين ورصانته، فيعود يتفحص مواضع قدميه، يتشمم غبار عثراته التي مضت ليصنع منها غداً خالياً من الكدمات، أو قصيدة ريانة مثل أنثى. إن الفوز بجائزة مرموقة، كجائزة العويس مثلاً، يشكل، بالنسبة للشاعر، أفقاً شعرياً وجمالياً وإنسانياً يحفل بالدلالات والتوقعات، بل من التحديات التي تتصل بمستقبل قصيدته وممكناتها الشعرية. ما الذي تنتظره قصيدته منه، وماذا ينتظره منهما أولئك المتربصون الضمنيون، الكامنون في ثنايا اللغة، وفي فعل الكتابة ذاتها؟
بعد الفوز يستقبل الشاعر سلالاً من الفرح والقلق والنرجسية والمحبة، ويجد نفسه أكثر اشتباكاً مع الجوهر، لا يهمه استعراض الذات ولا يشغله كم القصائد المكتوبة، إذا كانت لا تعلق إلا بالحواف الرخوة من الذاكرة، فالشاعر اليوم معنيٌّ بالبحث الموجع عن النوع الذي لا يخفت ضوؤه، وبالحفر في الحجر الذي لا تقربه الريح، بل مهموم بتدافع الأسئلة، أو حصاد الغلة الصعب. ثمة أفقٌ جماليٌّ، ترسمه لحظة الفوز بالجائزة، هو عبءٌ إضافيٌّ من المسؤولية إزاء القصيدة، أو خوفٌ غامضٌ عليها أو منها، كيف يُعـدُّ لنصوصه المقبلة ما تستحقه من سهر الحالم أو قلق الواثق الذي لا يهدأ. كيف يجعل منه تحدياً آخر مشوباً بكل ما في تحديات الإبداع من إغراءٍ يضيء، وتوترٍ يتصاعد. وللزمن الذي يلي لحظة الفوز بالجائزة قضاته الشاخصون، المحسوسون، القادمون من وراء كل حجرٍ نقديّ في تضاريس هذه الأرض، قضاةٌ انتدبتهم الخبرة المجربة والذائقة العارفة. وتنزلوا من مسامات التلقي الحصيف بكل تموّجه الجغرافيّ وتعدده المنهجيّ.
٭ ٭ ٭
تظلّ حاجة القصيدة أو مبدعها، قائمة، إلى كل امتنانٍ حقيقيّ، مهما كان حجمه. تتساوى في ذلك دفقةٌ من طيورٍ مصفقةٍ يطلقها جمهورٌ نابهٌ في قاعةٍ مكتظةٍ، أو جائزة تمنحها لجنةٌ أكاديميةٌ رصينةٌ. كما أن الإحساس بالرضا ضروريّ للشاعر، ينعش داخله الإنسانيّ ويرمم إيمانه بأن الإبداع لا يزال يجد، في هذه البرية الموحشة، من يصغي إليه، ومن يحس بجدواه، في عالمٍ يفقد كل يومٍ بعضاً من مرتكزاته الروحية الصلدة. وكنت أميز دائماً بين قصيدة الجائزة وجائزة القصيدة، بين قصيدةٍ تكتب، في مسعىً مدروسٍ وماكرٍ ربما، للحصول على جائزةٍ ما، وجائزةٍ تأتي تتويجاً لعمرٍ شعريّ حافلٍ بالابتكار والسهر والألم النبيل.
وعلى العكس من الكثيرين من أبناء جيلي، ومن الأجيال الأخرى، لم أتقدم في حياتي إلى جائزة شعرية وكانت جائزة العويس هي الجائزة الوحيدة التي تقدمت للحصول عليها. وكأنّ القصيدة التي أكتبها هي مشروع جائزة دائمة، وأن تلقي تلك القصيدة هو أكبر الجوائز وأشدها بهاء. كنت أرى أن آهـة من أعماق مجروحة، أو انتشال روح آدمية من يأسها هي عرس القصيدة الأكبر. حاولت دائماً أن أعين قصيدتي على ألا تخسر رهانها الجماليّ، لذا لم أهرع إلى مباشرةٍ مؤذيةٍ من أجل فرحٍ مهرجانيٍّ أجوف، أو هتافٍ لا جدوى منه. فالقصيدة حين تسرف في الكلام الناشف، أو الأفكار المجردة، وحين تجافي شطحات المجاز الحيّ، ودهائه الخلاق، تتحول إلى ركامٍ لغويٍّ بارد، ولذلك كنت أرفض جماليات القول الشعريّ، حين تأتي معزولة عن جذرها الترابيّ، حين تسترخي مطمئنةً على سرير اللغة، بينما ينام الأطفال هامدين تحت مدنهم المهدمة ، وعيونهم مملوءة بالتراب والدم اليابس.
مداخلتي في ندوة الجوائز الأدبية، التي أقيمت مساء الرابع من هذا الشهر، على هامش معرض الرياض الدولي للكتاب.
شاعر عراقي
“القدس العربي”