في بناء وتأسيس الشعرية العربية، الكثير من التطرف والقسوة وأحادية المنظور، لأن مآل الشعر العربي، مباشرة بعد مجيء الإسلام، وُضع في مهبّ الخطاب الديني (مقولة الصدق والكذب) الذي كان همه الأوحد هو التمييز بين الشعر والنص القرآني، مع إبراز الجانب الإعجازي في القرآن الكريم. كلنا نتذكر كتبا مؤسِّسة، ألهبت الشعرية العربية منذ نشأتها الأولى: «دلائل الإعجاز» للجرجاني، و«الإعجاز القرآني» للباقلاني، و«عيار الشعر» لابن طباطبا، و»نقد الشعر» لقدامة بن جعفر، وغيرها من المصنفات التي تحمل عناوينها أكثر من معنى.
إن النقد العربي (أغلب النقاد كانوا لغويين) وهو يذهب، في القرنين الثاني والثالث للهجرة، إلى تأسيس الشعرية العربية، نسي أو تناسى أنه كان يقتل أهم مبدأ في الإبداع الشعري، ألا وهو الحرية. وتبعا لذلك لم يخطر ببال النقاد/اللغويين، أنهم ذاهبون بالوعي والتفكير، إلى حدّ الاحتباس والاختناق، بما هما طريقان سالكان نحو أصولية شعرية قاتلة. أصولية متطرفة، ديدنها الإقصاء ووأد الفعالية الإبداعية، بسبب ما تملكه من سلطة تحمي عرين القصيدة أو المعيار تحديدا.
٭ ٭ ٭
والحق إن الشعر، لم يكن البتة، منذ نشأته الأولى، حكرا على نمط واحد، الشعر في النص الأول من تاريخ البشرية، لم يحتكم إلى معيار أو نموذج خاص، بل كان نموذجا لنفسه. مسألة النموذج والمعيار، هي صنيعة العقل المحافظ الذي يهاب الطارئ والمختلف، ويتحصن مثلما القطيع بالجاهز المعطى سلفا. إن أصل الشعر، هو الحرية، بما هي تحرير لنفسها قبل الإنسان. بمعنى أنه ثورة مستمرة لا تهدأ ولا تهادن. لنتساءل معا: هل كان في نية الشاعر الأول أن يضع معايير ما لما هو ذاهب إليه؟ أم كانت رغبته، أولا وأخيرا، تسليط الضوء على المناطق المعتمة في هذا الوجود، المناطق الأكثر انفصالا عن الإنسان، من أجل جعلها على اتصال به؟
في هذا الوجود نحن دائما في حاجة إلى إضاءة الأمكنة الأكثر عتامة في الحياة وكشفها. أي أننا في حاجة دائمة للشعر. الشعر بما هو كشف وحجْب (أليثيا بتعبير هايدغر) لا بما هو تكرار وتسييج ومعايير.
٭ ٭ ٭
الشعر العربي بنفسه، لم يكن البتة، في نشأته الأولى، يروم التنميط، أو خلق القوالب الجاهزة للتعبير حتى، فأنماط الكتابة تأتي بعد عملية الإبداع، أي إنها تحصيل حاصل، بدليل اختلاف أشكال القول الشعري، في العصر الجاهلي، باعتباره يشكل مرحلة تأسيس وبداية، إذا ما نحن افترضنا أصلا أنه كان البداية فعلا. الرجز/الأرجوزة، والمقطوعة وغيرهما، هي مقترحات مختلفة تماما، كانت القصيدة أكثر حظا وشيوعا منها، وعلى ضوئها (القصيدة) تأسس، ما سمي لاحقا، بالشعرية العربية. للأسف أننا اختزلنا الشعر بأكمله في نموذج القصيدة فقط، فأصبح المفرد جمعا، والتبس علينا الأمر حتى أصبحنا، إلى يومنا هذا، نعيش أزمة مصطلحات ومفاهيم، حيث يتشابه علينا لون البقر. ألا نسمي الآن كل ما يكتب من شعر قصيدة؟
بعد العصر الجاهلي، سنُكرر الخطأ نفسه، وسنعود للنسيان مرة أخرى. مقترحات شعرية مضيئة، لم تصلنا، أو بالأحرى وضعت، عمدا، في المهب، فقط لأنها كتابة جاحدة بالجماعة ومنطق الإجماع، تجارب أقصيت بعنف شديد، وقسوة لا مثيل لها، لأنها ترفض ما تنتجه الجماعة، كمؤسسة مهيمنة، تنتج خطابات تغذي وتقوي مصالحها، أقصد مصالح السادة. مصيرُ الشعر الصوفي مثلا، لم ينج من هذا الإقصاء، لأن الصوفي يرى أن الإنسان طاقة خلاقة ومبدعة، ترفض كل تنميط أو قولبة، وترفض المعطى والجاهز. هي شعرية ممانعة ومضادة، بكل المقاييس لكل أصولية، والنتيجة أن كان مصيرها النسيان/الإقصاء. كتابات أبي حيان التوحيدي، والنفري، والحلاج، وجلال الدين الرومي، مقلقةٌ للغاية، ولا تؤمن بالانتماء، ولا تعترف بالنموذج، بل هي كتابات كما يقول أدونيس عنها «تكتب التاريخ برؤيا القلب ونشوة اللغة» العلة التي جعلت الأصولية الشعرية والفقهية، على حد سواء، تتصدى لها، وتحاربها.
ما كان يقلق الأصولية الشعرية في النص الصوفي، وما يزال، كونه يجمع بين الشعر والفكر، كذلك لأنه يقول ما لا يُقال، ويخوض في النفس، والوجود، والمثنويات، التي هي من صلب اهتمامات العقل، والفلسفة تحديدا، مع العلم أنه يخوض في ذلك وهو مؤمن بنسبية ما هو ذاهب إليه، وكأن الصوفي بقدر ما يعلم، يقول: «أعرف أني لا أعرف». هكذا أقصت الأصولية الشعرية أفقا شعريا، كان ربما سيغير مسار الشعر وتاريخه.
ليس من شك فيرأن علاقة الشعر بالفلسفة، هي علاقة العقل بالخيال. والشعر منذ بداياته الأولى، كان قلقا وجوديا، وبحثا في كينونة الإنسان، ولنا في ملحمة جلجامش (حوالي2000ق.م) خير شاهد على ذلك. إن التفكير في طبيعة الإنسان ومصيره، كان، في منطلقه الأول، طرحا للسؤال الوجودي شعرا.
٭ ٭ ٭
إن تاريخ شعرنا العربي، للأسف، يتجاهل البدايات الأولى، وينسى أو يتناسى ذلك بقصد، وهو يعلم أنه يعدم الرأي الآخر. لأن النسيان، في كل الأحوال، هو انفصال تام عن حقيقة الأشياء، والانفصال هذا، يحدث ألما وجرحا في تاريخ البشرية كما يقول هيغل. حاجتنا اليوم إذن إلى تذكر النسيان، ومراجعة هذا المنسي، حاجة ماسة. مراجعة المنسي، يعني بالضرورة مراجعة المفاهيم، وفي المقابل إن الجحود في مقاومة النسيان، يقوي الأصولية الشعرية، وليس شعرية المعيار أقصد.. هكذا نشأت الأصولية الشعرية العربية (نشأة معطوبة) في كنف الرفض المطلق للتفكير بالشعر، والتفلسف بالخيال، علما أن جل الفلاسفة، عبر التاريخ، أقروا بكون الشعر هو صنو الفلسفة. ولفهم منطق الاشتغال لدى الأصولية الشعرية من الداخل، أو كيف كان يشتغل، والذي قادها إلى ابتداع بروباغاندا قصيدةٍ أحاديةِ المنظور (من قصّد، أي قسم الكلام إلى نصفين) ودوكسا شعري/جمالي زائف وجائر، لا بأس من تفكيك العلاقة القائمة بين الشعر والفلسفة، ولو على عجل.
٭ ٭ ٭
ليس من شك فيرأن علاقة الشعر بالفلسفة، هي علاقة العقل بالخيال. والشعر منذ بداياته الأولى، كان قلقا وجوديا، وبحثا في كينونة الإنسان، ولنا في ملحمة جلجامش (حوالي2000ق.م) خير شاهد على ذلك. إن التفكير في طبيعة الإنسان ومصيره، كان، في منطلقه الأول، طرحا للسؤال الوجودي شعرا. نتذكر جميعا الأساطير اليونانية القديمة والبابلية، وكيف استعملت الخيال الشعري، واللغة الشعرية، لفهم الوجود الإنساني وتفسيره.. نتذكر، أيضا وعطفا على ذلك، سجع الكهنة، بعد أفول نجم الأسطورة، وهم يبررون وجودنا على هذه الأرض، ويخبروننا بمصيرنا بعد الموت، حتى الفلسفة، وهي في قمة انتصارها للعقل، أنصفت الشعر بوصفه أقرب إلى الفلسفة منه إلى التاريخ، لأنه يخوض في الكليات، مثله مثل الفلسفة. الفلسفات الما بعدية، بدورها، توسلت بالاستعارة (نيتشه مثلا) وباللغة الشعرية موضوعا (هايدغر وقصته مع تجربة هلدرلن). إن نيتشه، عندما عجز عن إيجاد الحلول لمجموعة من المشكلات، لم يجد بدا من «التفلسف بالمطرقة» أي جينيالوجيا الاستعارة (الشعر).
وليس من شك، كذلك، أن الفلسفة، منذ هيراقليطس، كانت تسعى، بدأب شديد، إلى مدِّ الجسور بين أصدقاء ومحبي الحكمة من جهة، والشعراء من جهة أخرى، فقط لأن الشعر والفلسفة متكاملان ولا ينفصلان، فإذا كان الشاعر يجعلنا نشعر، كما يقول الفيلسوف الفرنسي لويس لافيل، بهذا اللقاء بين اللامتناهي والمتناهي، بيننا والكون، وهو موضوع التفكير الفلسفي، فإن الفيلسوف يسعى إلى تفسيره (الفلسفة والشعر philosophie et poesie). وبذلك ألم يكن أبو العلاء المعري فيلسوفا للشعراء، وشاعرا للفلاسفة، بمعنى من المعاني؟
والحاصل إن نظرة الشعر الجمالية، تقدم معرفة أوسع لهذا الوجود، وهي بذلك، تتفق مع ما ذهب إليه دوستويفسكي حينما قال: «إن الجمال هو الذي سينقذ العالم يوما ما». جمال الشعر يقصد.. ربما.
شاعر وناقد مغربي
“القدس العربي”