تطغى أخبار ألعاب كأس العالم لكرة القدم المقامة في إمارة قطر على سائر الأخبار المحلية والدولية؛ ونعيش، نحن الناس، كما في كل دورة مشابهة، تداعيات مشهدية غريبة، تعيدنا إلى حيرة الفيلسوف وسؤاله الأول حيال ذاك السحر المكنون في لعبة تكتنز كرتها جميع المجازات المتناقضة، وتتيح للمتابعين عوالم من التأويلات البسيطة والمركبة. ليست اللعبة ما يعنيني في هذه العجالة، بل هو النسيان الذي نسكنه بفرح عظيم ونحن في حضرتها، ونحلّق على أهدابه نحو البعيد البعيد، فنصير أبطالا غاضبين نلهث وراء هدف لا وراء سراب وطين، ونقاتل ببسالة أعداءنا ونسحقهم من دون أن نصير إرهابيين.
النسيان دائما نعمة إلا في فلسطين، فهو إما أمنية مستحيلة أو لعنة، هكذا فكرت صباح يوم الأربعاء الفائت عندما غادرت بيتي، الكائن في حي بيت حنينا شمالي مدينة القدس، قاصدا مدينة رام الله. كانت صافرات السيارات في الشارع عالية ومتواصلة وكأنها عزيف الجان. زحفت بين سيارتين ولم نتحرك. فتحت الراديو فكانت مذيعة إحدى القنوات الإسرائيلية تنقل بلهجة حربية أخبارا عن تنفيذ عمليتين تفجيريتين في محطتين للباصات في القدس الغربية، وتفيد كذلك عن سقوط قتلى وجرحى.
كان طابورنا يتقدم ببطء سلحفاة، بينما ابتلعت زرقة الأفق وراءنا آخره. أجريت بضعة اتصالات مع زملاء كنت أعلم أنهم في الطريق إلى أعمالهم ففهمت أنهم عالقون مثلي، وأن الجيش والشرطة أغلقوا معظم الطرقات الرئيسية في القدس ويقومون بتفتيش جميع المركبات في الحواجز العسكرية المؤدية إلى رام الله وغيرها.
لم امتلك خيارا سوى الانتظار. كنت أطفئ الراديو من حين إلى آخر كيلا أسمع تعليقات المذيعين الإسرائيليين وضيوفهم وتحريضهم على جميع الفلسطينيين؛ فكل من تحدث منهم وعنهم هدد وتوعد، وبعضهم أكدوا أن الحكومة الجديدة ستستعيد سياسة الاغتيالات الفردية، والاجتياحات العسكرية وملاحقة «المخربين» وفرض منع التجوال وسياسة الإغلاقات وغيرها من الوسائل العقابية المجربة والمستحدثة بحق المواطنين الفلسطينيين. طال وقوفنا ولم يكن أمامنا مخرج بديل. اتصل بي صديق وأخبرني أنه عالق منذ الساعة السابعة والنصف صباحا في منطقة «بسجات زئيف» القريبة من المحكمة العسكرية في «عوفر»، ثم استطرد قائلا: «دعنا من هذا القرف ولنتكلم عن انتصار السعودية»، وأضاف مازحا إنه سمع مسؤولا سعوديا يعلن بعد هزيمة الأرجنتين أن فتح الاندلس أصبح مسألة وقت وحسب، ثم تلى عليّ مجموعة من النكات والنهفات التي تفتقت عنها قريحة الناس في أعقاب تلك اللعبة، ومنها خطبة لشيخ يجزم أن اللعبة وحدت جميع مسلمي العالم وانتصار الفريق السعودي ما هو إلا انتصار المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها على جميع الكفار. قالها وحاولنا أن نستحضر مشاعر مدرب منتخب الفريق السعودي الكافر هيرفي رينار الفرنسي الجنسية والمنبت. لست من مدمني مشاهدة لعبة كرة القدم؛ وللحقيقة تعمدت أن أفطم من عشقي لها وتعلقي المرضي بتشجيع فريق معين، وبدأت اتبع سياسة الانحياز للفريق الذي يؤدي عرضا أفضل.. لم يكن ذلك سهلا، لكنني صممت على أن أتخلص من ذلك الدنف، بعد أن أحسست أن مستويات التعصب داخل مجتمعاتنا العربية وصلت حدودا خطيرة، وانقسامات نووية كان أشدها الصراع بين قبيلتي «البارشا والريال». حاولت أن أكون قدوة أمام أبنائي وأقاربي، ولكنني اكتشفت أنني لم أشفَ من ذلك السحر الكروي بشكل تام؛ فمباريات المنتخبات الدولية احتفظت بعناصر تشويقها المنيعة أمام محاولات الفطام أو الابتعاد عن مشاهدتها، لاسيما خلال مباريات كأس العالم، وكأنها استبدال ممسرح لحرب عالمية متخيلة. كنت وحدي عندما شاهدت لعبة المنتخب السعودي. لم أعرف من قبل أية تفاصيل ذات قيمة عن لاعبيه أو تاريخه وإنجازاتهم؛ بينما كانت الأسماء الأرجنتينية نجوما تحيط بقمرها الواحد والوحيد ليو ميسي. هيأت نفسي لتشجيع الأرجنتين من دون أن أبحث عن أسباب عقلانية أو موضوعية لذلك، فعلى ما يبدو كان شيء ما بداخلي مقتنعا باختياري من باب الإنصاف والاستحقاق. بدأت اللعبة وكانت سجالا بين قوتين متكافئتين والسعوديون يحاربون كأبطال الملاحم والمعلقات. لم انتبه متى ولماذا خلال مجريات اللعبة بدأت أنحاز لصالح المنتخب السعودي، ولم أجد لغاية اليوم سببا واضحا جعلني مع نهاية المبارة أداري الدمع المتدحرج من عيني ككرات من فرح حذر. كل الأجوبة على هذه الأحجية ممكنة، وكلها، في الوقت ذاته، غير كافية أو ملتبسة. كانت للأرجنتين مكانة وردية باسمة في مخيلتي، فلم أفتش على ثأري في الملعب منها؛ والانتصار عليها لم يعد، في قاموس الحماسات الوطنية الشعبوية، هزيمة لرمز إمبريالي تقليدي أو رأسمالي خنازيري، كما لو هزم منتخب فلسطين منتخب بريطانيا مثلا. فلماذا إذن فرحت لهذا الانتصار، وأنا، مثل عرب وفقراء كثيرين، برازيلي الهوى؟
يعرف الفلسطينيون أنها مجرد لعبة بين فريقين، لكنهم أكدوا أيضا أنها تثبت ما آمن به المناضلون بأن الهزائم ليست قدرك إذا امتلكت فريقا مستعدا للنزال
كانت أخبار التفجيرين تتوالى تباعا بتقارير مكرورة ومستفزة، ومصحوبة بخبر عن قيام شبان من مدينة جنين باختطاف جثمان شاب عربي من سكان مدينة دالية الكرمل، كان قد أصيب بحادث سير بالقرب من مدينة جنين، فنقل على أثره للمستشفى حيث فارق الحياة هناك، فاختطفه الشبان، حسبما جاء في الأخبار، بحجة أن إسرائيل تتحفظ على جثامين عشرات الشهداء الفلسطينيين بينهم حوالي العشرين جثمانا من منطقة جنين. بدأت السيارات تتقدم ببطء والأخبار تنقل نداءات قيادات الأحزاب والحركات العربية في إسرائيل الموجهة للجهة التي تتحفظ على جثمان الشاب بإعادة الجثمان كي يتمكن أهله من دفنه، حسب الأصول. بعد أكثر من ساعتين وصلت إلى اجتماعي في رام الله. لاحظت أن أحاديث الحضور، ومعظمهم كانوا من الأسرى المحررين، كانت تتناول أخبار الطرقات وجلطاتها المرورية من باب التفاكه الروتيني على المشهد، ثم كان لحادث التفجيرين قسط في حديثهم، ففهمت منهم أن الأمر كان متوقعا بعد التمادي الذي مارسته قطعان المستوطنين في الاعتداءات الدموية اليومية على المواطنين في القدس وجميع الأراضي المحتلة وعلى ممتلكاتهم، وبدعم من جيش الاحتلال المباشر، وكان متوقعا كذلك بعد انسداد جميع أفاق السياسة وطاقات الأمل، وأن المقبل سيكون أخطر، هكذا توقع وأجمع معظم المتحدثين. وأجمعوا كذلك على أن عملية اختطاف جثمان الشاب العربي تيران فرو، وإن لفتت أنظار العالم إلى جريمة احتجاز إسرائيل لجثامين الفلسطينيين، كانت عملية خاطئة منذ البداية وارتجالية بشكل مسيء وغير محسوبة بشكل سليم. كاد النقاش في هذه القضية يتشعب حتى تدخل أحدهم وقال حاسما: «انسونا يا شباب من وجع الراس، بكفينا اللي جاي، خلونا نحكي شوي عن انتصار المنتخب السعودي».
فجأة تغيّرت أجواء القعدة واكتسى الكلام بألوان زاهية، مثل لون الفرح والرضا واحترام الذات. بعضهم اعترف بانهم من مشجعي الأرجنتين التاريخيين، ويعتبرون ميسي بطلهم الفريد، لكنهم شعروا بطمأنينة بعد انتهاء اللعبة من دون أن يتخلوا عن رغبتهم في انتصار المنتخب الارجنتيني في اللعبة المقبلة. تحدثوا وكأنهم خاضوا حربا حقيقية أعادت لهم بعضا من كرامة سليبة، وتحدثوا كأنهم كانوا مسافرين في دهاليز الزمن، حيث صارت أحلامهم نقوشا على وطن. جميعهم يعرفون أنها مجرد لعبة بين فريقين، لكنهم أكدوا أيضا انها تثبت ما آمن به المناضلون بأن الهزائم ليست قدرك إذا امتلكت فريقا مستعدا للنزال. كنت أسمعهم فرحين بعد هزيمة الأرجنتينيين، وأدرك لماذا تدحرج دمعي بعد انتهاء المباراة. فلساعتين فضيّتين في هذا الزمن الرديء، صار الملعب مسرحا واقعيا تقفز فيه لهفة المحاصرين فتصير سحابات هائمة؛ ولساعتين، من وقت الوجع، لم نكن مجرد متفرجين على صراع الأقدام وانسكاب العرق من الأجساد، بل كنا كأبناء الهزائم جوعى لقطعة شمس خريفية وحلم خفيف كنرجسة نركض وراءه فنركله ونضحك، ونركض وراءه، مرة أخرى فنركله مرة وأخرى ونستريح. لساعتين من عمر الرمل عشنا في عالم النسيان الكروي، فلم نكن واهمين ولا واقعيين، ولا لاعبين ولا متفرجين، ولم نكن منتصرين ولا مهزومين؛ لقد كنا مجرد منسيين وناسين. لقد بكيت، اسألوا دمعي، وأنا في عالم النسيان، ربما من فرح على نصر لم يكن، أو ربما من وجع على هزيمة لم تكن؛ فمن قال إن النسيان في فلسطين لا يكون أحيانا نعمة؟
كاتب فلسطيني
“القدس العربي”