أخذت الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني بتصدير الحرب الأهلية في تركيا إلى سوريا منذ العام الثاني للثورة السورية، 2012. في تشرين الثاني من هذا العام حرضت تركيا وسلّحت تشكيلات مسلحة سورية معارضة للنظام لهجوم طائش على بلدة رأس العين ذات الأكثرية الكردية التي وقعت قبل ذلك بقليل، ولسبع سنوات بعد ذلك، تحت سيطرة الجناح السوري للحزب الكردي التركي.
بدأت هذه السيطرة في تموز من عام 2012 نفسه، حين أمدّ النظام الأسدي بالسلاح التنظيم الأوجلاني المتمرس بالقتال، وسلّمه مناطق الأكثرية الكردية في شمال غرب وشمال شرق البلد. وراء هذا التسليم والاستلام أن التنظيم يعتبر أن معركته الأساسية مع الحكم التركي وليس النظام السوري الذي كانت جمعته به روابط طيبة طوال ثمانينيات القرن العشرين ومعظم تسعينياته. وكان غرض النظام من هذا التسليم التفرغ لمواجهة البؤر النشطة للثورة السورية، وكذلك الفصل بين الاحتجاجات العربية والكردية، وإعطاء اليد العليا في البيئات الكردية للتنظيم الأشد انعزالية تاريخياً عن البيئات السورية الأخرى، بما فيها الكردية السورية.
وقع ذلك في بداية انهيار الإطار الوطني للصراع السوري الذي كان حتى ذلك الوقت صراعاً سورياً سورياً، سلمياً ثم سلمياً ومسلحاً، وكان من جملة تغيرات متزامنة يصعب ألا يدل تزامنها على انعطاف كبير في سياسة مواجهة الثورة، والأرجح في تقديري أنها تدل على انتصار الحزب الإيراني في مراتب الحكم الأسدي العليا. مما جرى في شهر تموز الفاصل ذاك اغتيال ضباط خلية الأزمة (آصف شوكت وهشام اختيار وداود راجحة وحسن تركماني)، وهو عملية تصفية داخلية على أرجح تقدير؛ وأول استخدام للبراميل المتفجرة ترمى عبر طائرات الهيلوكوبتر؛ والتوسع في استخدام الطيران لقصف المدن والبلدات المتمردة؛ ولعله أول استخدام لصواريخ سكود ضد المدن كذلك؛ وبدء انحسار الاحتجاجات السلمية التي كانت بؤرها متكاثرة حتى ذلك الوقت، ووصلت في الشهر نفسه إلى نحو 800 بؤرة. والواقع أن جملة هذه التحولات الانعطافية لم تأت من فراغ. فعدا أن النظام كان تحت ضغط متصاعد من قبل ثورة مسلحة وسلمية كانت لا تزال متسعة المراتب، فإن شهر تموز نفسه شهد انشقاق رئيس الوزراء الأسبق رياض حجاب ونجاحه في الخروج إلى الأردن، ثم اقتحام مجموعات معارضة مسلحة مدينة حلب والسيطرة على أحيائها الشرقية.
وقد يكون الشهر نفسه هو كذلك نقطة تحول التسرب السلفي الجهادي إلى سوريا إلى تدفق، وبعد أن كان من الحدود العراقية والحدود اللبنانية، صار أساساً من الحدود التركية. ومن غير المحتمل أن ذلك جرى دون غض نظر، إن لم يكن التسهيل، من طرف السلطات التركية التي ربما عولت على أن يواجه الجهاديون الجوالون التنظيم الكردي، وهو ما جرى فعلاً، وربما النظام السوري، وهو ما جرى بقدر أقل. لكن أولئك الغرباء الجانحين كانوا، قبل كل شيء، كارثة على الثورة السورية التي وجدت نفسها محارَبة على جبهتين، جبهة النظام وحماته الإيرانيين، وجبهة الجهاديين الجوالين الذين ساقتهم دينامية تطرف قوية، ليست منفصلة عن كونهم بلا رابط حي بأرض ومجتمع، نحو مزيج مسموم من الدين والجريمة. كان هناك ثائرون سوريون يواجهون داعش، وقد واجهوه بالفعل وطردوه من مناطق في شمال حلب وغربها في مطلع 2014، لكن لم يكن ثمة ثائرون سوريون مستعدين لمواجهة داعش وحده ودون النظام، مثلما أراد الأمريكيون. وحده التنظيم الأوجلاني كان مستعداً ذلك. وهو ما اعتُمد بدءاً من أيلول 2014، وقت التدخل الأمريكي المباشر في سوريا.
تبدو الانعطافة التركية في سبيلها إلى تقديم شيء كبير جداً لنظام صغير، بغرض حل مشكلة أصلها في تركيا: الصراع ضد الحركة القومية الكردية
هذا وضع الأمريكيين والأتراك، الحليفين في الناتو، في موقعين متقابلين في سوريا. وكان مما دفع في هذا الاتجاه أن الأمريكيين بدأوا منذ وقت مبكر من عام 2013 النظر إلى الصراع السوري من منظور محاربة الإرهاب (الإسلامي)، بينما كان لا يزال الأتراك أقرب إلى ما بدا أنها السياسة الدولية حيال «الربيع العربي»، أي الإيجابية حيال الثورات والتغيير المتوقع في سوريا مثلما حدث في مصر وتونس وليبيا واليمن. والأرجح أن رغبة الأتراك بحكم سني في جوارهم القريب كان عاملاً إضافياً في سياستهم السورية. وعلى هذا الحساب كخلفية، اعتمدت تركيا سياسة الباب المفتوح بخصوص اللاجئين السوريين حتى مطلع 2016، حتى بلغ عدد اللاجئين فيها فوق ثلاثة ملايين وسبعمائة ألف، أكثر من نصف مجموع اللاجئين السوريين، نحو سبعة ملايين.
بعد إسقاط داعش في الرقة على يد الأمريكيين ووكيلهم قوات حماية الشعب، وتوسع مناطق سيطرة التنظيم الكردي في سوريا، صار الحكم التركي أكثر توتراً. إرهابيوه هم التنظيم الأوجلاني المتعاون مع الأمريكيين، وإرهابيو الأمريكيين هم الجهاديون الذين تساهل الأتراك في أمر تدفقهم إلى سوريا في سنوات سابقة.
تركيا التي تدخلت في سوريا عسكرياً منذ آب 2016، بعد عام من الروس وعامين من الأمريكيين، أطلقت عمليتين عسكريتين ضد التنظيم الكردي: «غصن الزيتون» عام 2018 واحتلت فيها عفرين ومناطق مجاورة لها، ثم «نبع السلام» عام 2019 واحتلت راس العين التي تقدم ذكرها. عبر هاتين العمليتين انتقلت الحرب الأهلية التركية إلى سوريا على يد طرفيها الرئيسيين، بعد أن كانت الحكومة التركية تخوضها عبر وكلاء. استمر اعتماد وكلاء سوريين، يطلق عليهم اسم الجيش الوطني الذي لا يبدو أن له من اسمه نصيب، لا من جهة الوطنية ولا من جهة الجيش، على ما شهد التوسع الصاعق لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) في مناطق سيطرة هؤلاء الوكلاء في تشرين الأول الماضي.
اليوم تتسابق الأخبار عن عملية عسكرية تركية واسعة ضد «قوات سورية الديمقراطية» (قسد) ذات العماد الكردي، مع أخبار تتكرر عن استعداد الرئيس التركي عن لقائه ببشار الأسد، بغرض مرجح هو ترتيب سيطرة النظام الأسدي المباشرة على الأراضي السورية التي تسيطر عليها قسد، على ما صار الأتراك يصرحون به علناً. لكن هناك في الحد الأدنى أربعة ملفات كبيرة على درب المصالحة بين النظامين، ليست قوات قسد غير واحد منها. أولها ملف اللاجئين الذين يتسابق الحكم التركي مع معارضيه في المزايدة على إعادتهم إلى سوريا. الثاني ملف المعارضة الرسمية في الائتلاف، وعمادها من الإخوان المسلمين، ويبدو أنه سيجري التضحية بهم وبأجسامهم السياسية والإعلامية مثلما جرى لمعارضين مصريين، معظمهم من الإخوان كذلك. الملف الثالث هو مناطق سيطرة «الجيش الوطني» الذي عمل كتابع لتركيا طوال سنوات، لكن قد يتجاوز عدد سكان هذه المنطقة المليون، والرابع هو ملف قسد الذي يطفو على السطح أكثر من غيره، لكن في منطقة سيطرتها يعيش ربما خمسة ملايين، يفضل أكثرهم الوضع الحالي على عودة النظام. في المحصلة، تبدو الانعطافة التركية في سبيلها إلى تقديم شيء كبير جداً لنظام صغير، بغرض حل مشكلة أصلها في تركيا: الصراع ضد الحركة القومية الكردية.
عشر سنوات ونيف بعد تطعيم حربنا الأهلية بالحرب الأهلية التركية، يبدو طرفا الحرب الأخيرة راضيين من الغنيمة بالإياب. تركيا تريد من النظام ابتلاع قسد التي لا تكاد قيادتها تمانع في أن تبتلع. ربما تكسب تركيا شيئاً صغيراً، ويربح النظام شيئاً أكبر. من يخسر هما الطرفان الآخران في الحرب الأهلية في البلدين: من عولوا في صراعهم التحرري على النظام الأسدي الذي كان منهمكاً في قتل محكوميه، ومن عولوا على حكم تركي ينكر العدالة على جزء من محكوميه في صراعهم من أجل العدالة.
“القدس العربي”