«قلعة الدروز» هي الرواية الرابعة للروائي الأردني مجدي دعيبس (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) بعد «الوزر المالح» 2018، «حكايات الدرج» 2019، و«أجراس القبار» 2020. وهو، في جميع هذه الروايات، يرصد التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العوالم المرجعية ذات الصلة. ودعيبس يأتي إلى الرواية من عالم مفارق لها وغريب عنها. هو، في الأصل، مهندس اتصالات وعميد متقاعد. ومع هذا، يستطيع أن يجد لنفسه موطئ قدم في عالم يتزاحم فيه روّاده بالمناكب والأقدام، وتفوز روايته الأولى بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الخامسة 2019.
مهارة هندسية
وعلى بعد الشقة بين العالمين، القادم منه والآتي إليه، يوظف دعيبس مهارته الهندسية في روايته الجديدة، فيضعها في ثلاثين وحدة سردية، يتناوب على رويها ثمانية عشر راوياً، بوتيرة تتناقص نُزُلاً تبعاً لأهمية الراوي، من الأهم إلى المهم إلى العادي. لذلك، نراه يفرد لبطل الرواية ست وحدات سردية، وللمكان الروائي خمس وحدات، وللمختار ثلاث وحدات، وللجندي الفرنسي المغربي الأصل وحدتين اثنتين، ووحدة واحدة لكل من الشخصيات الأربع عشرة المتبقية. وبذلك، يتناسب توزيع مهام الروي على الشخصيات الروائية المختلفة مع أهمية الشخصية، ويتصادى الشكل والمضمون، ويستثمر الكاتب اختصاصه الهندسي في فنّه الروائي.
أثمان غالية
في الدخول إلى العنوان من المتن، نشير إلى أن القلعة المقصودة بناها الرومان في واحة الأزرق الأردنية، أواخر القرن الثاني للميلاد، غير أن لجوء الثوار الدروز إليها، خلال الثورة السورية الكبرى، في الربع الأول من القرن العشرين، جعل الجميع يطلق عليها اسم «قلعة الدروز». وفي الدخول من العنوان إلى المتن، يرصد دعيبس التحولات الاجتماعية والاقتصادية في «جبل العرب» السوري وجواره الأردني، الناجمة عن التحوّلات السياسية المتمثلة في الانتداب الفرنسي والثورة السورية الكبرى عليه. وهو يفعل ذلك من خلال رصد انعكاس هذه التحولات على أسرة بعينها والأثمان الغالية التي تدفعها، بدءاً من الرحيل عن الديار، مروراً بحرق الدار وهدمها، وصولاً إلى اعتقال ابنها واستشهاده. وهي أثمان دفعتها أسر كثيرة في تلك الفترة التاريخية.
تجري الأحداث في فضاء ريفي زراعي، له نمط عيشه وعاداته وتقاليده، في الربع الأول من القرن العشرين، خلال أربع سنوات، تبدأ بقيام الشاب نايف أبو عطا بقتل جندي فرنسي، وتنتهي باستشهاده على يد جاسوس فرنسي. وبين البداية والنهاية، تجري مياه كثيرة تحت جسر الرواية، وتحدث تحولات درامية، يتجلى فيها التضامن الأسري، والانتماء الوطني، والتكافل الاجتماعي، وتطفو فيها على السطح منظومة قيم متجذّرة في تاريخ الشعب السوري، تتمظهر في شبكة من العلاقات الاجتماعية بين شخصيات الرواية.
خلفية تاريخية
ثمة سلكان اثنان ينتظمان الأحداث في «قلعة الدروز»؛ الأول يقتصر على خمس وحدات سردية، تراعي الخطية الزمنية، وتقوم الواحدة برويها، فيجعل الكاتب من المكان شخصية روائية، ترى وتسمع وتشهد على الأحداث وترويها. وهو سلك يعود إلى أواخر القرن الثاني الميلادي، ويتناول بناء القلعة بإشراف الروماني أرنسو لأهداف تجارية واستعمارية، ويتمخّض عن نمط من العبودية يقوم العبيد والمحكومون ببنائها تحت رقابة الجنود، ويتعرّضون لمخاطر الحيوانات المفترسة، ويكون ثمة أثمان لهذه العملية يدفعها البناؤون والحجارون والمشرف على المشروع، فيقوم الضبع الذي ربّاه بإطباق فكّيه على فخذه والتسبّب في موته، وهو الذي كان قد قتل أمّه ذات يوم، ويسقيه من الكأس التي سقاه منها. وهذا السلك يشكّل الخلفية التاريخية القديمة لأحداث الرواية.
نقاط تقاطع
السلك الثاني يمتد على خمس وعشرين وحدة سردية، ويقوم برويها سبع عشرة شخصية روائية، ويعود تاريخ أحداثه إلى الربع الأول من القرن العشرين، ويتناول تداعيات التصدي للانتداب الفرنسي على سوريا، خلال أربع سنوات، يدفع فيه المتصدّون أثماناً غالية، تتراوح بين الرحيل والحرق والهدم والسجن والقتل والإعدام، وتنتهي باستشهاد بطل الرواية على يد أحد الجواسيس الفرنسيين. على أن العلاقة بين السلكين اللذين تفصل بينهما ثمانية عشر قرناً لا تبدو واضحة للوهلة الأولى، غير أن القارئ المؤوّل يمكنه، بقليل من التبصر، أن يحدد نقاط التقاطع بين السلكين، ويقوم بتأويلها والبناء عليه؛ فالمكان هو نفسه في السلكين (القلعة) والمخاطر هي ذاتها (الحيوانات المفترسة) وعلاقات القوى متشابهة (العبودية والانتداب) والأثمان متقاربة (الموت والاستشهاد). لعل الروائي يريد القول إن التاريخ يعيد نفسه ولو بأشكال مختلفة، وإذا كان السلك الأول يشكّل خلفية تاريخية قديمة للثاني، فإن هذا الأخير هو الرواية.
نقاط تحوّل
كثيرة هي الوقائع التي تشكّل السلك الثاني في «قلعة الدروز» ما لا يتّسع المقام لقراءتها. غير أن ثلاثاً منها تشكّل نقاط تحوّل في مجرى الأحداث، وتكون لها تداعياتها الخطيرة على بطل الرواية والشخصيات الأخرى المتعالقة معه:
ـ الواقعة الأولى تتمثّل في قيام الشاب نايف أبو عطا، ابن بلدة امتان، بطعن جندي فرنسي حتى الموت لتسبّبه في موت جدّته. ويترتب عليها وقائع أخرى تتمظهر في: رحيل الأسرة المؤلفة من الأب والأم والعم وزوجته وابنته عن ديارهم، قيام الفرنسي بحرق منزلهم وهدمه، تربّص الجواسيس بهم، اللجوء إلى قلعة الأزرق التاريخية، الانخراط في علاقات جديدة مع نزلائها، التحوّل من النمط الزراعي إلى النمط التجاري، التحول من الأسرة العائلية إلى الأسرة الوطنية وغيرها. ومن خلال هذه الوقائع، تتبلور الشخصيات المنخرطة فيها، فنتعرف إلى مروءة الأب عجاج ورباطة جأشه وصواب رأيه وحسن تدبيره للأمور، اختلاف الأم صبحية ورجاحة عقلها ونزوعها إلى التمرّد وقدرتها على التحمل، قوة العم ذياب وشجاعته وإخلاصه لأخيه، وتفهّم زوجته نعايم وحسن تعاونها. على أن أهم ما تتمخّض عنه هذه الوقائع شجاعة بطل الرواية وجسارته ومروءته ورجاحة عقله وحسن تدبيره وصحة خياراته، وهو ما اكتسبه عن والديه وأسهمت الأحداث في بلورته.
ـ الواقعة الثانية تتمثّل في إخبار الفتاة الجميلة بيسان، ابنة الدباغ الدرعاوي مصطفى الشرطوخ، مراد الأجير السابق لوالدها والجاسوس الحالي للفرنسيين، بأن الشاب الجميل نايف أبو عطا سيتقدّم لخطبتها، في محاولة منها لإغاضته والتخلّص من مضايقاته لها. وتترتّب على هذه الواقعة وقائع أخرى تتمظهر في: قيام الجاسوس مراد باقتفاء أثر نايف وتسقّط أخباره والوشاية به، قيام الفرنسيين بمداهمته والقبض عليه واقتياده إلى سجن القلعة في الشام، التعرّف إلى السجناء الثوار، واللقاء بهادي تومار الجندي الفرنسي المغربي الأصل، الذي يتدبّر أمر تهريبه من السجن لأن نايف كان قد ضمّد جرحه، ذات يوم، وأنقذه من موت محقق. وتتمخّض هذه الوقائع عن: تجلّد نايف وتماسكه، ووفاء الجندي المغربي الأصل.
ـ الواقعة الثالثة تتمثّل في قيام أبي طلال من حي الشاغور، الثائر المحكوم بالإعدام لقتله خمسة فرنسيين، باحتضان نايف ومعاملته بأبوّة، وإطلاعه على اسم الجاسوس الذي وشى به وبكثيرين غيره للفرنسيين، حتى إذا ما أُعدم أبو طلال وخرج نايف من السجن، يأخذ على عاتقه البحث عن الجاسوس الجاني سرمد البرعوط وتصفية الحساب معه. غير أن تردّده في التنفيذ لأن أسرة الأخير كانت قد آوته، خلال مطاردة الفرنسيين له، جعله يدفع الثمن، فيتطاعن معه، ويقتل أحدهما الآخر. وهنا، تنجلي الوقائع عن غدر الجاسوس، ووفاء نايف لمن أحسن إليه، والبر بعهده المضمر لأبي طلال.
إلى ذلك، تكسر الرواية الصورة النمطية لشخصية المختار الذي يتعاون مع السلطة المحلية، أو الاستعمارية وتقدم صورة إيجابية من خلال مختار أمتان، الذي يقترح على عجاج بوعطا مغادرة القرية ويحاول ثني الفرنسيين عن حرق داره وهدمها، ومن خلال مختار قرية العانات، ومن خلال أبي مثقال وعجاج نفسه اللذين تعاقبا على وظيفة المختار في القلعة.
صورة نمطية
في المقابل، لا تخرج صورة الجاسوس في الرواية عن الصورة النمطية لهذه الشخصية المنبوذة والمحتقرة والخائنة، فالجواسيس الأربعة فيها يعكسون هذه الصورة بوضوح. والمفارق أن كلاًّ منهم يدفع ثمن تجسّسه على بني قومه، بشكل أو بآخر؛ فالجاسوس الأول في أمتان ينشغل بتجسّسه عن مرض زوجته فتلقى حتفها، والجاسوس الثاني يقطع الثوار يده، والجاسوس الثالث مراد يسقط من عين حبيبته بيسان فتحتقره وترفض الارتباط به، والجاسوس الرابع سرمد البرعوط يلقى حتفه على يد نايف. وهكذا، تتضافر عدالة السماء وعدالة الأرض في معاقبة من تسوّل له نفسه خيانة بلده.
«قلعة الدروز» رواية مجدي دعيبس الرابعة مهندسة بإتقان، وتعكس قدرته على تحريك هذا العدد الكبير من الرواة بطريقة مدروسة، تتناغم فيها حركاتهم في ما بينها بوتائر معينة. وتقوم علاقة تكاملية، في المضمون، بين الوحدات السردية المختلفة، في إطار علاقة تعاقبية، في الشكل. يتم فيها النظر إلى الواقعة الواحدة من منظورات مختلفة، تتكامل في ما بينها، فتكمل رواية أحدهم رواية الآخر، وتتشكّل من الروايات المختلفة حكاية رئيسية، يسهم كل منهم فيها بمقدار يتفاوت من راوٍ إلى آخر. ولعل هذه الهندسة هي التي تمنح الرواية روائيتها فتضيف إلى فائدة الحكاية متعة الخطاب.
كاتب لبناني
“القدس العربي”