شهدت سوريا سقوط الأم وابنتها في حفرة كبيرة للصرف الصحي هذه الحفرة التي بقيت على حالها لزمن طويل ولم تنتبه لها بلدية اللاذقية أو أي مسؤول !!! تم إنقاذ الأم لكن الشابة ماتت في المجرور.
حادثة لو شاهدناها في فيلم سينمائي لقلنا: يا للمبالغة للمخرج !!! ألا يتم إنقاذ شابة سقطت في حفرة الصرف الصحي. أخو الشابة قال إنه بقي ثلاث ساعات يصرخ في الهواء يا ناس يا دولة أنقذوا أختي ونجح في الحصول على حبل عسى أخته تتعلق به ويسحبها ، لكن ندى داوود الشابة الجميلة المبتسمة لم يخطر ببالها أن القدر السوري اختار لها الموت في مجرور .
وثمة بلاليع كثيرة وحُفر في اللاذقية وغيرها من المدن، غير مُغطاة بغطاء حديدي متين كي لا يسقط فيه المارة، خاصة أنهم يمشون في العتمة لانقطاع الكهرباء، وعادت بي الذاكرة لأتذكر عدة أشخاص سقطوا ليلاً في حفر كبيرة لم ينتبهوا لها لكن من حظهم أنهم لم يموتوا على بُعد أمتار من حفرة الصرف الصحي التي ابتلعت الشابة ندى ثمة بهجة وإنجازات عظيمة تفوق الخيال وهي إنشاء مقاعد (المقعد يتسع لشخصين) من ابتكار ما يُسمى (الأمانة السورية للتنمية) صدقاً لم أفهم معنى هذه العبارة المهم أن هذه المقاعد التي تُسمى المقاعد الذكية (فكل شيء ذكي في سوريا من البطاقة الذكية إلى المقاعد الذكية) إلى الإنترنيت الذكي، ميزة هذه المقاعد الذكية التي ركبتها (الأمانة العامة للتنمية) أنها تمنح المواطن نعمة شحن الموبايل في النهار فقط (أي أنها لا تعمل ليلاً) وأيضاً ثمة خاصية في المقاعد الذكية للمعوقين حيث نجد الصورة الخاصة بالمعوقين مطبوعة أسفل الكرسي ، لكن كيف سيصل المعوق إلى هذا الكرسي الذكي ولم يتخذ أي إجراء في الأرصفة والشوارع الخ تساعده ليصل إلى الكرسي الذكي!!! إلأا في حال حمله أهله وأجلسوه على الكرسي.
ما بين موت شابة ( ندى داوود 22 سنة ) في حفرة الصرف الصحي منظرها مُروع- وبين المقاعد الذكية يُمكن استعمال تعبير أو تشخيص انفصام الشخصية للمدينة أرملة الساحل السوري اللاذقية، صدمة جعلت كل أهل اللاذقية خاصة وسكان سوريا يُصابون بالذهول.
جرف صخري
ما يعيشه السوريون من حالة رعب مستمر كمن يجد نفسه يقف على حافة جرف صخري لا قاع له ويمكن أن يسقط في كل لحظة وما من مُنقذ . هذا ما يقوله معظم السوريين، لكن ثمة انفصاما في شخصية بعض السوريين، ومنهم قضاة ومحامون ومثقفون كتبوا في اليوم ذاته الذي غرقت فيه الشابة ندى في حفرة المجرور كتبوا تعليقات على صفحاتهم، بأن ما حصل هو مأساة لكن إنظروا إلى إعصار كارولاينا مثلاً في أمريكا كم قتل أميريكيين وكم هدم منازل!! هذا ببساطة انفصام شخصية واع أي أن من يقارنون بين موت شابة بسبب الإهمال والفساد المريع للمسؤولين في سوريا وانهيار البنية التحتية وإعصار كارولاينا في أمريكا أو غيرها من الأعاصير هو قمة انعدام الضمير والأخلاق، فالحادثة لا تشبه إطلاقاً الإعصار الذي لا يستطيع أحد رده، لكن أمريكا وغيرها من الدول التي تحترم الإنسان تنبه الناس إلى وقت حصول الإعصار وتطلب منهم مغادرة منازلهم وتؤمن لهم أماكن آمنة. ما حصل في اللاذقية ليس إعصاراً طبيعياً – الطبيعة وحدها مسؤولة عنه ما حصل هو إعصار مستمر من الفساد ، من انعدام الضمير والأخلاق.
المطران جورج خضر
من شهادة الزور بأن موت الشابة في حفرة المجرور يشبه تماماً إعصاراً في أمريكا. يحضرني هنا حوار مع صديقي المطران جورج خضر وهو فيلسوف عظيم وسألته بعد أن قرأت كتابه (الحياة الجديدة وهو مجموعة مقالات) هل يعقل صديقي أنك لم تذكر سوى صفة واحدة للشيطان في كل كتاباتك وهي أنه (كذاب) كنتُ مستغربة وأتوقع أن يحكي عن صفات كثيرة عن الشيطان فضحك وقال لي: من الكذب تتفرع كل الشرور.
وانطبعت هذه العبارة في ذهني كالوشم وغُصت فيها ووجدتني أعيد تفسير حوادث كثيرة مرت معي وكنت شاهدة عليها من عبارة جورج خضر المطران والفيلسوف العظيم (من الكذب تتفرع كل الشرور). وروعني وعيي الجديد لهول الكذب والقمع في حياتنا.
مظاهر الفساد
حادثة أحب أن أسردها فقد كتبت لمدة سنتين في جريدة الثورة مقالا أسبوعيا عن روايات قرأتها أو أتناول مواضيع تخص الناس مثلاً وظيفة (أمينة المكتبة في المدارس) كانت وظيفة خُلبية، فالمكتبة مغلقة دوماً وأمينة المكتبة تأتي كل شهر لقبض راتبها، أما وضع الكتب في مكتبة المدرسة فبحالة رثة فوق التصور، مقالي هذا تم نشره، ومقالات كثيرة أخرى تنتقد مظاهر فساد بسيطة بسقف حرية واطئ يكاد يلامس الأرض. لكن حصلت فضيحة مُروعة في سوريا وهي اكتشاف أن العديد من الأطباء الاختصاصيين المتعاقدين مع الجيش (أي درسوا في أوروبا وكانوا يقبضون رواتب عالية على حساب المؤسسة العسكرية) يعطون إعفاءات من الخدمة العسكرية للشبان الذين يعانون من أمراض معينة مثل: التهاب القولون القرحي أو قصر النظر لأكثر من أربع درجات، ولأن الفساد بلغ ذروته ولا أذكر بالضبط كيف تفجرت الفضيحة إذ تبين أن العديد من الأطباء المتعاقدين مع الجيش وهم وحدهم المخولون بإعفاء الشباب من خدمة العسكرية كانوا يقبضون الملايين من أهل الشاب ويقدمون صوراً شعاعية وفحوصاً مخبرية كلها مُزورة (أي لمرضى آخرين ) كي يتم إعفاء الشاب من خدمة الجيش، وقد تم فعلاً سجن بعض هؤلاء الأطباء المُرتشين المتعاقدين مع الجيش لامتصاص نقمة الناس، وبحماسة كتبت عن تلك الظاهرة الفساد الطبي والرشاوي وخيانة قسم إيبوقراط . لكن جريدة الثورة رفضت نشر المقال واتصل بي رئيس تحرير الصفحة التي كنت أكتب فيها، وقال لي أطباء الجيش خط أحمر، اكتبي عن الفساد الطبي بشكل عام أنشر لك المقال، لكنني غضبت وقلت إن الكتابة شرف وهؤلاء الأطباء مرتشون أعفوا شباناً أصحاء من خدمة العسكرية وقبضوا الملايين وأنتم تعرفون والناس غاضبون ويشعرون بالقهر والظلم واللاعدالة ، فكان جواب رئيس تحرير جريدة الوحدة قاسياً وجافاً ومُبطناً بتهديد، وهو يكرر لي كأنه يقرعني قلت لك الحديث عن أطباء الجيش خط أحمر. اكتبي عن الفساد الطبي بشكل عام. وتوقفت عن الكتابة في جريدة الثورة . لكنني نشرت المقال عام 2012 في صيغة مختلفة قليلاً ونشرته في جريدة الحياة وكان السبب في منعي من السفر وفي إستدعائي لأحد فروع الأمن التي من حسن حظي أنني زرتها كلها وكانوا جميعاً يتفقون على عبارة مُوحدة : أن كتابتي هي نشر الغسيل الوسخ !! وبأنني أعطي صورة مُهينة لوطني العظيم.
السكوت عن الخطأ
ولم أكن أملك سوى عبارة واحدة أدافع بها عن نفسي هي ما قاله القائد «الخالد» حافظ الأسد: السكوت عن الخطأ مشاركة فيه. كنت أحس هذه العبارة تحميني قليلاً من الأذى فهي من أقوال «القائد الخالد».
اللاذقية محرومة من الماء (شح فظيع) ومن الكهرباء، ولا أحد يستطيع أن ينطق بعبارة كي لا تسقط عليه تهمة الجريمة الإلكترونية، والغلاء الفاحش حيث صار سعر الفروج المشوي 45 ألف ليرة سورية !! لكن اللاذقية المنكوبة تجد فيها فئة من أثرياء الحرب يفتتحون المطاعم والمقاهي الفاخرة ويختارون أسماء عجيبة مثل (مطعم دافنشي). – الرحمة لروحه من حظه أنه مات أو مقهى فخم جداً اسمه (كازابيلا) أو سندويش سقراط !!!.
كاتبة سورية
“القدس العربي”