عصر التشذير
طفت إلى السطح تعددية المحكيات المقطعية والشذرية، التي تُفكك المفهوم التقليدي للذات، بشكلٍ مُوازٍ، مع الدعوة إلى نقد جديد للنص يُثمن دور القارئ ويُنظر لفعل القراءة، بقدر ما يلغي المؤلف، أو يحد من سلطته القاهرة: «موت المؤلف». وقد ساهم هذا الرفض للمؤلف بوصفه ذاتا مُوحدة، في صياغة فهم جديد للنص السيرذاتي، أو سعى إلى إعادة التفكير في السيرة الذاتية بوصفه كيانا دالا في حد ذاته.
ويمكن القول إن عبارة رولان بارت: «في مجال الذات، ليس ثمة من مرجع» طرحت نفسها كإبدال جديد ضد التصور المتعارف عليه بخصوص جنس السيرة الذاتية، الذي يرى أن الذات التي تحكي عن حياتها داخل النص، توجد في انسجامها ووحدتها، قبل أن تُعبّر عن نفسها داخل اللغة، فيما هذه الذات – في تصوره النقيض- غير ثابتة ومتشظية ومنشطرة، والإحالة على الواقع الخارج نصي، ليس سوى وَهْم، وبالتالي تفقد اللغة وضعها كوسيط شفاف، أو قناة أقل إشكالية في ارتباطها بالمرجع؛ إذ تدخل في لعب لا يتوقف من الكلمات التي تحيل مثل المرايا على بعضها بعضا. إن هذا الإبدال أولى أهميته لدور اللغة والخطاب في بناء الذاتية، وشكك في انسجام الأنا ووحدتها، ولا علاقة للأنا النصي le je textuel مع ذات المؤلف.
لا مرجع خارج الذات
تمثل السيرة الذاتية التي كتبها رولان بارت، والمعنونة «رولان بارت بقلم رولان بارت» (1975)؛ أي في السنة ذاتها التي أصدر فيها فيليب لوجون «الميثاق السيرذاتي» بمثابة جوهر هذا الإبدال، مع صعود تيار ما بعد البنيوية والنزوع إلى التفكيك. إنها سيرة ذاتية مضادة، بحيث شكلت نموذجا للانتقال من لهجة الواقع إلى التخييل داخل مجال السيرة الذاتية. فما أن نأخذ الكتاب بين أيدينا حتى يتجلى لنا الاختلاف بالقياس إلى السيرة الذاتية التقليدية. اسم المؤلف يشغل جزءا من عمل العنوان لإلغاء أي إحالة على خارج النص، وفي الصفحة الثانية من الغلاف، ينبه التصدير الآتي قارئه بأن لا يقرأ هذه السيرة الذاتية من أجل أن يتعلم شيئا ما عن الرجل، بل أن يضع في اعتباره «ما تقوله شخصيةٌ روائيةٌ» ثُم يبدأ النص بسلسلة من الصور لرولان بارت الطفل والمراهق والناضج، الذي تجاوز الخمسين من عمره، وأصبح كاتبا كما تشير إلى ذلك نهاية السرد وسيرة الماضي: «منذ بدأت أنتج، منذ بدأت أكتب، فإن النص نفسه هو ما ليس بحوزتي (لحسن الحظ) خلال مُدتي السردية. النص لا يمكن أن يحكي أبداً». وبعد التعليق على صور الشباب، يتبقى من السيرة الذاتية ما يخص الكتابة البارتية، الأثر الذي تركه سن النضج.
تأخذ السيرة الذاتية شَكْلا وهي تُبْنى من مقاطع يُفسر فيها المؤلف ما كتبه خاصة، ويشرح «دائرته الكلامية» الخاصة، أو يتأمل في الموضوعات التي تشغل باله؛ مثل اللغة. لكن التفاصيل التي يأتي عليها لم يقدمها تقديما كرونولوجيا، ولا يُحيل فيها الدال (السيرة الذاتية) على مدلوله الخارج نصي (كاتبها). فالاختلاف الرئيس بينها وبين السيرة الذاتية المتعارف عليها يكمن في تصور العلاقة بين الذات والنص، أو بين الذات واللغة، وهو التصور الذي يقوم عليه أساسا المشروع السيرذاتي البارتي بأكمله.
يلغي بارت التطابق الثلاثي (تطابق السارد والشخصية والمؤلف) ويرفض بحث الأصالة، وينفي عن النص السيرذاتي طبيعته المرجعية، مستفيدا في ذلك من التعريف الذي يعطيه لاكان لمفهوم المُتخيل. فالمؤلف الذي يكتب يختفي أمام النص، وهو وحده الذي يوجد: «أنا لا أسعى إلى وضع تعبيري الحاضر لصالح حقيقتي الداخلية (في النظام الكلاسيكي، سنبرر هذا المجهود تحت اسم «أصالة». أتنازل لاحقا وبشكْلٍ مُضْنٍ عن قطعة قديمة مني أنا نفسي، ولا أسعى إلى أن أنهض بنفسي، لا أقول: «أُقبل على وصفي» بل: «أكتب نصا، وأسميه ر. ب». أتجاوز عن محاكاة (الوصف) وأعهد لنفسي بالتعيين. لست أدري إن كان لا يوجد في مجال الذات من مرجع؟ فالفعل (السيري، النصي) يُلْغي نفسه داخل الدال، لأنه يتزامن مباشرة معه». أما اللغة التي تنتمي إلى العالم بأسره، فلا تستطيع أن تقوم مقام المرآة لدى الذات الفردية. وإذا كان لنا من انطباع بأن ثمة ذاتا تعبر عن نفسها داخل لغة النص، فلن يكون ذلك إلا «أثر اللغة» Effet de langage، التي تنفي أن يكون ثمة مرجع يمكن التعرف عليه في الواقع. وبدلا من مطابقة الواقع، فإن المُتخيل ـ كوسيط – يدل بالأحرى على رغبة الذات في أن تخلق مثل هذا التشابه الذي نعرف أنه لن يكون ممكنا: «في درجة امتلائه، هكذا يُبْتلى بالمتخيل: كل ما رغبتُ من كتابة ذاتي وما تضايقني كتابته في نهاية المطاف».
في بعض المقاطع التي يتأمل فيها بارت عمل كتابة النص، إنما كانت تفسر بالأحرى تصوره للمتخيل، للذات وللنص السيرذاتي. هكذا، فالفصل المعنون بـ»كتاب الذات» يكشف ذلك: «هذا الكتاب ليس كتاب أفكاري، إنه كتاب الذات، كتاب مقاومتي لأفكاري الخاصة. بمعنى الكتاب المتنحي، الذي يتقهقر، بل كذلك الذي ينال من القهقرى». وغالبا ما يستخدم بارت، على امتداد العمل، ضمير الغائب للحديث عن أنشطة ماضيه، وهو ضميرٌ يحيل على اللاشخص la non-personne، عوض أن يختار الضمير الشخصي.
يُنْظر إلى نظرية رولان بارت، ولاسيما حول السيرة الذاتية بالأخص، باعتبار أنها تشكل أسس الأبستيمولوجيا ما بعد الحداثية، ومن أهم ميزاتها رفض التصور الأنسي Humaniste للذات كمصدر لدلالة الخطاب.
ويحرص على نفي أي تطابق بين الذي يتلفظ داخل النص والمؤلف رولان بارت من خلال تكريره لعبارة التصدير، وهو ما سمح له أن يواصل تجذير تصوره لدور المتخيل داخل النص السيرذاتي: «لأن المتخيل هو المادة الحتمية للرواية ولمتاهة الحيود التي يضِل داخلها كل من يتحدث عن نفسه؛ المتخيل الذي تتكفل به عدة أقنعة (شخوص) تتوالى بالتدريج حسب عمق المشهد (والشخصية الأخيرة، بالنتيجة)». يُستعمل المتخيل هنا في معنى الـ»تخييل» «ناتج المتخيل» وهو نتاج الكتابة الذاتية بشكل لا يمكن تجاهله، ولن تكون صور الذات سوى أقنعة له ولا تحيل على شخصٍ بعينه.
إن إشكالية الطابع المرجعي للغة لا يمكن أن تُفصل عن العلاقة بين الذات واللغة. لذلك، يستخدم بارت استعارتين لبيان هذه العلاقة المركبة: استعارة قنديل البحر، التي تمثل لغة الآخرين، والدوكسا، ولغة الثقافة الجماهيرية التي يشعر بارت نفسه بأنه خارجها. ومع هذه الاستعارة تتعارض استعارة بحرية أخرى، استعارة الحبـار الذي يمثل الكاتب، صاحب السيرة الذاتية. ويرتبط الحبر الذي يخرج من جسده بفعل الكتابة، لكنه يحجب الحبـار في الوقت نفسه. وإذ لا نرى إلا الحبر فإنه يمكننا على الدوام أن نكشف المصدر دون أن تكون لنا الاستطاعة لرؤية الحبـار. هكذا يتوارى كاتب السيرة الذاتية خلف الكتابة. يُضاف إلى صورة الحبـار الرغبة النوستالجية «للخطاب المبتهج المحض» (خطاب العشاق) «الطالع من الجسد» كما الحبر من جسد الحبـار، لكن بدلا من أن يختفي، يصير «أخيرا بمثابة التعبير الأول عن سد الفراغ».
يبعد رولان بارت كل مظهر مرجعي للأجناس والتحديدات الأجناسية، حتى تظل سيرته الذاتية مرتبطة بفكرة التخييلات غير المرجعية، وينفي عن لغتها إمكاناتها الإحالية. لكن المتخيل يبقى هو سيد الفعل في البناء النصي للحياة، ولا ينتهي من الرغبة في ذلك بشكل منقطع النظير، كما لو أن النوستالجيا عنده تتمثل في القدرة على التعبير (ولاسيما عن مشاعره) داخل اللغة: «وبعد؟ ماذا تكتب الآن؟ هل لا يزال بوسعكم كتابة شيء ما؟/ نكتب مع الرغبة، ولن ننتهي عن الرغبة في سبيل ذلك».
إبدال جديد
يُنْظر إلى نظرية رولان بارت، ولاسيما حول السيرة الذاتية بالأخص، باعتبار أنها تشكل أسس الأبستيمولوجيا ما بعد الحداثية، ومن أهم ميزاتها رفض التصور الأنسي Humaniste للذات كمصدر لدلالة الخطاب. فقد تمت إزاحة الذات عن المركز، وهو ما جعلها بلا مركز ثابت أو خارج نصي تسند إليه دلالة النص، كاشفة عن أن الإمكانات المرجعية للغة هي في موضع شك. ومن جهة أخرى، فقدت هذه الذات مركزها داخل المعنى الذي لم تعد قدراته المنطقية أكثر وضوحا كما كان عليه الحال في السابق. لا يمكن للذات أن تسود العالم عبر عقلها، بل إن الذات لم تعد تدرك نفسها كوحدة بعد أن استحالت إلى مُجرد خطابات وشيفرات تتجاوزها وتحدها، ولم يعد لوعيها المُهدد بدوافع لاوعيها تلك السلطة المطلقة على تصرفها؛ فهي مقطعية، متشظية ومُجردة من وعيها الحاضر بحد ذاته، وباتت تخضع في الأخير للعبة إرجاء مستمرة؛ أي تظل بلا رسو، بلا مرجع.
إن التأمل المناوئ للمرجع anti-référentielle، الذي يحصر النص في الاشتغال اللاشخصي Le fonctionnement impersonnel للغة، وجد صداه كذلك عند مجايليه من أمثال جيل دولوز وجاك دريدا وغيرهما. وفي هذه الحركة الواسعة نحو التفكيك واللاتحديد واللامرجع، بات رفض المظهر المرجعي للسيرة الذاتية أس الإبدال ومنطلقه. فقد تخلوا عن خارج النص لفائدة النصي، وعن الحياة (bios) لأجل الكتابة (graphe) حيث لا يوجد الكائن إلا عبر التلفظ، وليست الذات سوى «أثر اللغة». حتى إن كانت السيرة الذاتية ليست إلا تَخْييلا للذات Fiction de soi، فإن هذا التخييل قد يكون ذا اعتبار في حد ذاته، لأنه يظل على الدوام مثالا على إبداعية الكاتب، الذي لم يعد يهمه صدق ما يكتبه، أو حرصه على التمثيل الوقائعي الوفي للأحداث، وإنما الكيفية التي يستطيع بها تمثيل الذات وإعادة بنائها بقدر يعكس صراع الحقيقة في بحثها الدائم واللانهائي، عبر رهان الغيرية، عن الهوية المتحولة باستمرار. وليس صدفة أو اكتشافا مبالغا فيه، إذا أصدر سيرج دوبروفسكي عمله المثير للجدل «Fils» 1977؛ أي بعد عامين من كتاب رولان بارت، ضمن هذا المناخ الثقافي والأدبي الذي كان يشهد انقلابا مُدويا في مفاهيم الذات واللغة والحقيقة وغيرها، وكان من أبرز مساراته تأثير التحليل النفسي، واستحالة الضبط الكُلي للذات، وتفكيك الذات التقليدية وموت الأيديولوجيات الشمولية التي كانت تُشْعر بالأمن. وقد جسد التخييل الذاتي انطلاقا من عمل دوبروفسكي، بما هو جنسٌ ينهض به المؤلف في كتابته، ويعكس علاقته الخلافية مع السيرة الذاتية، ذروةَ الإبدال الجديد، الذي ترتب عليه تدفق الكتابات الذاتية بشكل مدهش، واعتراف المؤسسة الأكاديمية والثقافية لها.
كاتب مغربي
“القدس العربي”