لقد واجهت الثورة السورية منذ انطلاقتها، بل وفي الشهور الأولى لطورها السلمي على وجه التحديد، محاولاتٍ عديدةً لتأطير الحراك الثوري المدني بشعارات عابرة للحدث السوري لم تكن منبثقة من السياقات الشعبية للاحتجاجات آنذاك، وعلى الرغم من عفوية التظاهرات وافتقادها للأطر السياسية التي توجهها أو تقودها سياسياً وتنظيمياً، إلّا أن الوعي الثوري العام، وعلى الرغم من عفويته، كان متقدّماً على تلك الشعارات وفاضحاً لها بآن معاً، إذ بدا حرص المتظاهرين كبيراً آنذاك على محاصرة وإزاحة أي شعار ينحدر من دعوات مؤدلجة فكرياً أو عرقياً أو دينياً، ولعل هذا الحرص نابع في الأصل من رفض شعبي عام لانزياح انتفاضة السوريين من مسارها الحقوقي الذي يجسد المطالب الشعبية بمضامينها الحياتية والقيمية معاً، إلى مسارات أخرى لن تودي سوى إلى الالتفاف على الثورة واختراقها بغية استبدال فحواها الإنساني بمحتوى إيديولوجي مفارق للوطنية السورية.
إلّا أن حصانة الفحوى القيمي للثورة سرعان ما تصدّعت وباتت عرضة للاختراقات الإيديولوجية حين عبر الحراك الثوري من طوره السلمي إلى طور التسليح والمقاومة العسكرية، وحينها لم تعد الشعارات الوافدة على الحدث السوري محصورة في حيّز الترويج والتجييش، بل باتت أكثر قدرة على التجلي الميداني متمثِّلةً بكل أشكال التطرّف الديني والقومي والطائفي، ولعل ذلك النكوص بات تجسيداً حقيقياً لاختفاء تدريجي لمعالم نصاعة القضية السورية وحلول خطاب وافد لا يحمل في تضاعيفه ما يعتمل في نفوس الناس وأذهانهم أو ما يؤرق ذواتهم.
لم تتردد مدينة السويداء منذ انطلاقة ثورة السوريين في آذار 2011 عن التماهي مع كل المدن السورية من حيث المشاركة بالتظاهر وبكل أشكال الحراك السلمي
ولعل ما واجهته ثورة السوريين في بدء انطلاقتها، يواجهه اليوم الحراك الشعبي في مدينة السويداء الذي لم ينقطع منذ العام 2013 وحتى الآن، وإنِ اتخذ هذا الحراك أشكالاً مختلفة ومسارات قد لا تكون بالضرورة مطابقة لأشكال الحراك في المحافظات السورية الأخرى، إلّا أنه في النتيجة حراك وطني سوري ذو دوافع وأهداف لا تحيد عن أهداف ودوافع جميع السوريين الذين انتفضوا ضدّ نظام الإبادة الأسدي.
لم تتردد مدينة السويداء منذ انطلاقة ثورة السوريين في آذار 2011 عن التماهي مع كل المدن السورية من حيث المشاركة بالتظاهر وبكل أشكال الحراك السلمي، وحين جنحت الثورة إلى طور التسليح نأت بنفسها عن الدخول في صراع دموي، مع ثبات موقفها المؤيد للثورة والمناهض للسلطة، وقد عززت موقفها الثوري بعدة مواقف هي غاية في الحكمة والوطنية، فهي المحافظة الوحيدة التي لم تسمح للنظام بتجنيد أبنائها في صفوف جيشه للمشاركة بقتل إخوتهم السوريين من المحافظات الأخرى، وهي من المحافظات القلائل التي حصّنت أسوارها ولم تسمح للميليشيات الطائفية ولواحق إيران بالتغلغل في صفوف أبناء المدينة بغية الاختراق من الداخل، كما صمدت مدينة السويداء في مواجهة جميع أشكال الابتزاز التي مارسها نظام الأسد على أهاليها، وليس آخر تلك الابتزازات التي تمثلت بنقل المئات من تنظيم داعش الإرهابي عام 2019 من حي الحجر الأسود، ورميهم على أبواب مدينة السويداء لتهديد الأهالي ووضعهم أمام خيارين: إما أن ترسلوا أبناءكم لقتل السوريين وتذعنوا لأوامر نظام الأسد، وإما سأترك الدواعش المسعورة كي تنهشكم، وكان حينذاك موقف مدينة السويداء واضحاً لا غبار عليه ولم تثنهم تهديدات الأسد وابتزازاته عن موقفهم الوطني الخالص.
ما تواجهه انتفاضة أهلنا في السويداء اليوم من حملات التشويه المغرضة هو ذاته ما واجهته الثورة السورية في بداية انطلاقتها، بل يمكن القول إن ما يأخذه المرجفون على غضبة ثوار الكرامة هو ما يمكن أن يفخر به كل سوري ويسعى إلى تعزيزه، فلئن انتفض المواطنون احتجاجاً على سوء الخدمات والبؤس المعيشي وعدم قدرة النظام الأسدي على تقديم الحد الأدنى من وسائل العيش الكريم للمواطنين، فمن باب أولى أن يحتج المواطنون ويغضبوا ويعبروا عن احتجاجهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، وهذا حقهم المشروع كما هو حق كل سوري يشعر بالظلم، بل إن كان ثمة مأخذ على ذلك فهو بالتأكيد يقع على من لا يحتج ويغضب، يقع على الخانعين الساكتين وليس على الثائرين الذين تدافعوا إلى الشوارع ومسحوا أحذيتهم بصور وأصنام الطاغية، وثمة ما هو أهم من ذلك، وهو أن الأسباب الكامنة وراء الاحتجاجات الأخيرة في مدينة السويداء إنما هي موجودة في جميع المحافظات السورية الأخرى، فليس أهالي السويداء وحدهم من يعاني ندرة الخدمات وشح الوقود والماء والكهرباء والغاز والخبز ومواد الغذاء الأخرى إلخ، بل جميع السوريين جائعون ويعانون البؤس ذاته، باستثناء شرائح محدودة جداً، يضاف إليها حاشية النظام، ولئن انتفضت السويداء نتيجة لهذه الظروف المأسوية فإن انتفاضتها تعبر عن همّ سوري عام، كان من الأولى أن تؤازرها محافظات ومدن أخرى، لا أن تتركها وحيدة في مجابهة آلة القمع الأسدية.
هل كان مطلوباً من المنتفضين في السويداء أن يرفعوا شعارات إيديولوجية حتى يرضى عنهم المُرجفون والمُشككون؟ وهل يستوي أن يسكت المرء عن سرقة حقوقه وأسباب عيشه ويرضى بالإهانة والتسلّط والابتزاز الأمني، ثم يعلن المطالبة بالحرية والديمقراطية؟ وهل ثمة قيمة حقيقية للحرية والديمقراطية إذا جُرّد الإنسان من أبسط وسائل العيش وأسباب الكرامة؟
لقد بدأت ثورة السوريين مطالبةً بحقوق المواطنين المغتصبة، سواء أكانت تلك الحقوق معيشية مادية أو قيمية إنسانية
لماذا انتفض السوريون في آذار 2011، ثم لماذا كانت ثورات الربيع العربي برمتها؟ هل ثارت شعوب تلك البلدان لتحرير روما أو استعادة الأندلس مثلاً، أم لتحقيق الاشتراكية أو الوحدة العربية أو دحر الكفر وإقامة شرع الله في الأرض؟ أم انتفضت في وجه حكامها احتجاجاً على الفساد بكل أشكاله، مطالبة بإعادة الاعتبار للإنسان من خلال توفير مقومات عيشه الكريم واحترام الحريات بكل أشكالها ومضامينها بما في ذلك حرية المواطن وحقه في أن يعيش في ظل دولة تحترم مواطنيها ولا تتغوّل عليهم أو تفترسهم؟
لقد بدأت ثورة السوريين مطالبةً بحقوق المواطنين المغتصبة، سواء أكانت تلك الحقوق معيشية مادية أو قيمية إنسانية، فمنظومة الحقوق الإنسانية واحدة متكاملة لا يمكن تجزئتها، ومن تجاهل هذا الطابع الحقوقي لثورة السوريين في بدايتها وحاول أن يحشر نزوعاته الإيديولوجية بدلاً من حقوق الناس، هو ذاته اليوم من يسعى إلى تشويه انتفاضة السويداء، وهو في الحالتين مناهض للبعد الإنساني لأية ثورة.
“تلفزيون سوريا”