الطريق إلى العالم العربي أصبح يمر بالضرورة عبر البوابة السعودية؛ فقد أثبتت المملكة في السنوات الأخيرة قدرتها على ملء فراغ القيادة، وبلورة مواقف موحدة، وهو ما يعد تغييرا لقواعد اللعبة في الشرق الأوسط، بعد فترة طويلة من احتكار قوى غير عربية لمصير السياسة في العالم العربي. لقاءات الرئيس الصيني شي جين بينغ مع القادة العرب في الرياض، تقدم برهانا جديدا على أن السعودية هي بيت العرب ومقر قيادتهم، الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي قال بعد انتهاء اللقاءات: «نؤكد للعالم أجمع أن العرب سوف يسابقون على التقدم والنهضة مرة أخرى، وسوف نثبت ذلك كل يوم». هذا بيان للناس بأن العرب بعد نوم يستيقظون، وإنهم إلى نهضة جديدة ماضون، بعون الله، وبقوة الإرادة ونضج القيادة.
الجديد في تصريح محمد بن سلمان هو الروح الواثقة في خوض السباق العالمي على التقدم والنهضة، والعزم على خوض هذا السباق «مرة أخرى»، الأمر الذي يستحضر ماضيا عريقا من زمن ريادة العرب وأستاذيتهم للعالم. كما أن صدور التصريح في هذه المناسبة، يستوحي روح التغيير الذي أحدثته الصين في العالم خلال نحو 40 عاما، ويعلن الإبحار إلى المستقبل عبر نهر ضفتاه هما «الاستقلالية السياسية» و»التقدم والنهضة»، من دون استعداء لأحد أو استفزاز لآخرين، مع التسلح خلال رحلة الإبحار بقوة الإرادة، ووضوح الرؤية، والعمل الدائم للوصول إلى الهدف من دون مساومة أو تنازلات.
المقايضة المستحيلة
تصريح الأمير محمد بن سلمان هو أيضا بيان للناس بنهاية عصر مقايضة حرية الإرادة بطلب الأمان من الآخرين، إنه بيان يعلن نهاية رسمية لصيغة «النفط مقابل الأمن»، التي كانت السعودية مضطرة إليها منذ الحرب العالمية الثانية، وهي الصيغة التي كانت قد اتخذت تجليات مختلفة منذ سبعينيات القرن الماضي، حتى أراد الرئيس الأمريكي الحالي إعادة بعثها في صيغة فجة، بالتدخل في عملية صنع السياسات النفطية والخارجية والدفاعية للرياض. بايدن فشل في ذلك فشلا ذريعا، لكن محاولاته التي لم تتوقف لفرض مصالح بلاده، أدت في النهاية إلى فراق بين القيادة السياسية الحالية في الرياض، وتلك الصيغة القديمة، وهو فراق أثبت بما لا يدع مجالا للشك استحالة استمرار معادلة مقايضة «النفط بالسلاح»، أو «حرية الإرادة بالأمان». وقد أدركت القيادة السياسية السعودية، الملك وولي العهد ومعهما نخبة من الكوادر السعودية عالية الكفاءة متعددة المهارات، أن أي دولة إذا تعرضت لضغوط لبيع إرادتها في سوق النفط؛ فإنها لن تستطيع استرداد هذه الإرادة، أو المحافظة عليها، قبل أن تبرهن على أنها قادرة على جعل النفط جزءا من إرادتها، وأنها قادرة على الدفاع عن نفسها بسلاح تصنعه بنفسها. من هنا كانت رؤية 2030 السعودية، التي جاءت مبكرا، وحددت معالم طريق واضح لإعادة بناء الحياة على أسس صناعية حديثة، وتنويع الاقتصاد إلى عصر ما بعد النفط، لخلق توازن بين ما وهبته الطبيعة للإنسان، وما يمكن أن يرده الإنسان من خير إلى الطبيعة.
هناك مصلحة مؤكدة للدول العربية في اتباع سياسة مستقلة بين الصين وأمريكا والقوى الأخرى، لأنها ستحمي المنطقة من خطر الوقوع في شرك الاستقطاب شرقا أو غربا
العالم يتغير
يطرح السياق الذي جاء فيه بيان الأمير محمد بن سلمان، في جملة بليغة قصيرة أسئلة عميقة بشأن الحاضر والمستقبل في الدول العربية، وليس في السعودية فقط؛ فالبيان جاء في سياق تحولات جيوسياسية عميقة تجتاح العالم وتلقي ظلالها على منطقة الشرق الأوسط؛ فمن يسيطر على الشرق الأوسط يسيطر على العالم. هذه حقيقة تاريخية وجيوستراتيجية لا مبالغة فيها، ولذلك فإن الصراع على النفوذ العالمي يتخذ تجليات صارخة في المنطقة الممتدة من جبال زاغروس إلى جبال الأطلس، ومن شمال البحر المتوسط إلى شمال المحيط الهندي. وبسبب أهميتها الاستراتيجية الحاسمة، كانت هذه المنطقة دائما محط أطماع القوى الطامحة إلى النفوذ والسيطرة، وعانت شعوبها من سيطرة الغزاة واحدا وراء الآخر. وإذا كانت المنطقة تشهد الآن صراعا على النفوذ دخلت فيه الصين، لتكون أحد أطرافه الرئيسية، فحَرِيّ بنا أن نتعلم من دروس الماضي، حتى يعمل العرب على إقامة علاقات صحية متوازنة مع الصين، ليس لمصلحة الدول العربية فقط، ولكن لمصلحة الصين أيضا، بما يحميها من عوامل التوتر وعدم الاستقرار.
حاجة الصين للشرق الأوسط
الصين، قوة عظمى صاعدة، بدأت تجربتها التنموية المعاصرة في أواخر عام 1978 وأصبحت بعد 44 عاما ثاني أعظم قوة في العالم، ولن يكتمل صعود الصين إلا إذا أصبحت لاعبا رئيسيا في الشرق الأوسط. من هذا المنظور نقرأ معالم أول قمة عربية – صينية، ونقرأ مستقبل العلاقات بين قوتين تاريخيتين، تستطيعان أن تلعبا دورا جوهريا لتحقيق الاستقرار العالمي، وتوفير الأمان والرفاهية لشعوب المنطقة. ويرتبط إقامة علاقات متوازنة بثلاث حقائق كبرى، ومحظور واحد، من المهم أن نأخذها جميعا في الاعتبار.
أولا: هناك سباق شرس على النفوذ بين الولايات المتحدة والصين، لا يمكن تجاهله، أو إنكاره، وهو سباق قد يتطور بالخطأ إلى مناوشات مسلحة، أو صدامات عسكرية. ويجب أن نكون شديدي الحذر، لكيلا نصبح طرفا ثانويا في هذا السباق أو الصراع، حتى نتجب دفع ثمن لا مقابل له. الولايات المتحدة قلقة أشد القلق من التقارب العربي – الصيني. والحديث بين المفكرين في الولايات المتحدة وأوروبا بشأن زيارة الرئيس الصيني للسعودية، والقمم التي شارك فيها يجري من منظور أن الولايات المتحدة ربما تكون قد خسرت شريكا استراتيجيا لصالح الصين وروسيا، خصميها اللدودين. يجب ألا نتأثر بذلك، وأن نثبت قدرتنا على ممارسة سياسة مستقلة تسير في اتجاه تغليب مصالح بناء القوة المستدامة للمنطقة.
ثانيا: هناك تغيرات استراتيجية هائلة تشق طريقها بعناء لتخلق توازنا جديدا للقوى على المستوى العالمي. هذه التغيرات لا يمكن لدول المنطقة تجاهلها، أو التنازل لآخرين عن المسؤوليات المترتبة عليها. ومن المرجح أن يكون العالم في منتصف القرن الحالي غير ذلك الذي نعرفه الآن، جيوسياسيا، واقتصاديا، وتكنولوجيا، وعسكريا. من الضروري أن نستعد لذلك، خصوصا أن الصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا وروسيا، جنبا إلى جنب مع دول صاعدة أخرى ستلعب دورا محوريا مهما في عالم متعدد الأقطاب. ومن هنا تأتي أهمية الحرص على تطوير علاقات صحية متوازنة معها بما فيها الصين، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة.
ثالثا: صناعة السلاح وليس الاستحواذ عليه بالشراء من الخارج، هو شرط مسبق لصناعة القوة وطلب النفوذ. وتحتاج إقامة الصناعات العسكرية إلى التوسع في استخدام فائض الأموال والمهارات البشرية في توطين التكنولوجيا المتقدمة، وتطوير تصميمات صناعية أكثر كفاءة، وأكثر قدرة على الاستجابة للتحديات. ونحن نرى إرهاصات هذا التوجه الآن. النقطة الأساسية التي ينبغي أن نلتفت إليها هي أن توطين التكنولوجيا التقليدية القائمة، ومحاولة اقتفاء أثر الدول الصناعية الغربية لا فائدة منه، ومن شأنه أن يجعل من عملية توطين التكنولوجيا قناة جديدة للتبعية واختطاف الإرادة المستقلة. توطين التكنولوجيا يجب أن يتحقق من خلال عملية واعية لتوطين التكنولوجيا الراديكالية في صناعة السلاح، خصوصا تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والتحكم عن بعد، وتكنولوجيا الكوانتوم في تطبيقاتها الصناعية المتنوعة، من أجل اتخاذ أقصر الطرق إلى إنتاج المعدات العسكرية المُسَيّرة والذكية، وإنتاج الأسلحة الحرارية والكهرومغناطيسية، وصناعات الفضاء. من الخسارة إضاعة الأموال والطاقات البشرية والوقت في البحث عن إعادة إنتاج أسلحة تقليدية عفا عليها الزمن. كما أن الشرط الأساسي لنجاح الصناعات العسكرية، هو أن تكون امتدادا لمنظومة صناعية متقدمة.
المحظور الذي يجب أن نخشاه
هناك مصلحة مؤكدة للدول العربية في اتباع سياسة مستقلة بين الصين والولايات المتحدة والقوى الأخرى، لأن هذه السياسة المستقلة ستحمي المنطقة من خطر الوقوع في شرك الاستقطاب شرقا أو غربا. ومع ذلك فإن ممارسة سياسة مستقلة يحتاج إلى قيادة متوازنة ومستقلة، ذات نظرة مستقبلية طموحة من دون غرور، لا تسير على طريق للتمييز أو التفرقة بين مكونات المنطقة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية. قيادة تعترف بالتنوع، وتؤمن بالتفاعل معه. هذا من شأنه أن يحد من احتمال الوقوع في حقل الاستقطاب السياسي المليء بالألغام. ويحتاج تجنب الاستقطاب السياسي إلى أكبر قدر ممكن من الواقعية السياسية والبراغماتية، كما يتطلب عملا مستداما على طريق بناء القوة الذاتية، بحيث يتأسس لدى الأطراف المتصارعة، أو المتنافسة، يقين بأن منطقة الشرق الأوسط عمادها قوة عربية، وأنها ككل تمثل مركز قوة مستقل ومتوازن، يحافظ على علاقة خلاقة مع الأطراف الرئيسية المتنافسة، أو المتصارعة على النفوذ. إن بناء القوة الذاتية المستدامة هو الجسر الصلب الذي يربط بين تحقيق الأمن والاستقلالية السياسية في آن واحد.
*كاتب مصري
“القدس العربي”