(التمدد الهادئ)
حاول الأردن تجنب الضجيج وهو يجهز لقمة إقليمية في عمان ستنعقد يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع، التحضيرات كانت هادئة قدر الإمكان وبتنسيق عالي التكثيف مع فرنسا لما أراد الجميع تسميته بحوارات بغداد ٢، لربط الاجتماعات المقرر عقدها في البحر الميت بحوارات بغداد التي عقدت في العاصمة العراقية نهاية أغسطس (آب) من العام الماضي.
وجديد القمة المقبلة أنها ستضم عضوين جديدين هما البحرين وعمان، إلى جانب مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات وقطر وتركيا وإيران، وبالطبع العراق وفرنسا.
بعض المصادر أكدت أن دعوة رسمية تم توجيهها للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لحضور القمة، ذات المصادر أيضا لم تؤكد أي رد يثبت حضور رئيسي بنفسه، لكن إيران ستكون حاضرة وممثلة في حوارات بغداد “العمانية” على ضفاف البحر الميت وقريبا من الشاطيء الإسرائيلي المقابل بكيلومترات قليلة.
وبينما توجه رئيس الوزراء الأردني إلى السعودية على رأس وفد أردني واسع، كان الرد من طرفه أن الزيارة لا علاقة لها بالتنسيق للقمة، من دون أي توضيحات أو تفسيرات “واجبة” لزيارة “مفاجئة” متزامنة مع احتجاجات شعبية في الجنوب المتاخم للسعودية!
ومع غياب المعلومات “الشفافة” من لدن الحكومة فإن الزيارة الرئاسية للسعودية كما قيل حملت تفاهمات على قطاع النقل البيني بين البلدين.
التحرك الأردني كان مبكرا لتلك القمة، التي لا يحبذ الأردن تسميتها بالقمة لغايات ضبط الجودة الأمنية حولها وفيها، ولتخفيف أي حساسيات إقليمية أيضا، وهذا التحرك يقوده الملك الأردني بنشاط متسارع ومفاجيء في محاولة لإعادة الأردن نحو واجهة الأدوار الإقليمية المؤثرة، وقد تراجع الدور الأردني للمقاعد الخلفية لفترة طويلة أعقبت تحليقا “إقليميا” مرتفعا حققه الأردن في صيف عام ٢٠٢١، كانت ذروته في زيارة الملك الأردني لواشنطن، التي حمل فيها رسائل إقليمية مهمة، وبالتنسيق أيضا مع الرئيس الفرنسي ماكرون وما يشبه التفويضات من زعماء دول في الجوار الإقليمي، ذلك التحليق أعقبه هبوط مفاجيء للدور الأردني الإقليمي ترافق مع حضور حكومة نتانياهو من جديد للمشهد السياسي، حضور توجس منه الأردن وتحقق الهاجس.
بداية ديسمبر، وفي موازاة للنشاط المنبعث فجأة في النشاط السياسي الإقليمي الأردني، زار الملك عبدالله الثاني الجزائر “بعد مصر”، ثم حطت الطائرة الملكية في روما- إيطاليا.
الزيارة المفاجئة للجزائر ثم إيطاليا كانت أيضا بتنسيق مع فرنسا وكذلك إسبانيا، وهي زيارة مدهشة إن جاز التعبير، بعد آخر زيارة كانت قبل ١٤ سنة، وموقف أردني سابق في غير صالح الجزائر بقضية الصحراء الغربية!
حسب المصادر فإن الزيارة كان عنوانها الطاقة وتصدير الغاز الجزائري لفرنسا وإسبانيا، وبتنسيق مع إيطاليا التي أخذت السبق والحظوة الجزائرية في إدارة مشاريع الغاز الجزائري.
بالتأكيد هناك السؤال المنطقي: ماذا يتحقق للأردن من ذلك التحرك؟ الجواب لم أجده رغم الإلحاح بالأسئلة في عاصمة تضج بالأسئلة وتشح بالأجوبة، لكن بلا شك هناك مصلحة أردنية ما في كل ذلك.
واليوم، تعلن عمان عن مؤتمرها في سياق خبر أمني يؤكد تأمين الطريق من المطار إلى البحر الميت بآليات عسكرية، إعلان محفوف بكل إشارات التحذير الأمنية فرضته أحداث عنف رافقت احتجاجات “مشروعة” في قطاع النقل، تصاعدت بفعل تراكم الفشل الحكومي في المعالجات المبكرة، ووجدت مناخا خصبا للتسلل الإقليمي من الخصوم المتربصين لأي تقدم “إقليمي” للأردن، والتمريرات المحلية من معارضة إسلامية تبحث هي أيضا عن دور من جديد.
—
(الاعتراض المفاجئ للتمدد الهادئ)
لأن القراءات المحلية كانت خاطئة من الأساس، كانت الاعتراضات مفاجئة، لكنها طبيعية، وفي سياقها، لمن يقرأ المشهد المحلي الأردني بمنطق حسابات اجتماعية واقتصادية غير منفصلة عن واقع الشارع الأردني.
وفكرة منظومة الإصلاح السياسي، التي قادها الملك “بشغف شخصي شديد”، تعرضت اليوم لهزة عنيفة تعيد كل الحسابات إلى نقطة الصفر، أمام احتجاجات في قطاع النقل واللوجستيات، توسعت لتعبر عن حالة احتقان شعبي شديدة عكست انعدام الثقة بكل “المنهجية” الراهنة في إدارة البلاد.
الاحتجاجات التي انفجرت أخيرا كان يمكن التكهن بها على طول خط سير الإدارة السياسية للمشهد المحلي، وهو مشهد لا يمكن فصله بالمطلق عن سياق الأردن إقليميا أيضا، والاحتجاجات كانت كامنة تحت السطح تنتظر اللحظة التي تصل فيها الأمور إلى ما لا يمكن تحمله عند الشارع الأردني العاصف بالتوجهات والتيارات المتعددة وكثير من مظلومية الفقر والبطالة، مقابل ترف “مالي” ملحوظ في جيوب العاصمة، ينتفخ باستمرار حد الاستفزاز.
وكنا قد أشرنا في مراحل مبكرة منذ عام، وفي خضم الجدل “النخبوي” الأردني على منظومة الإصلاح والتحديث، بأن المطلوب هو استعادة الدولة لأهليتها المؤسساتية ضمن منظومة القانون وتحت الدستور، الدولة بمعناها الوظيفي بدون كل تلك الزوائد غير الدستورية التي تشاركها الولاية والحكم والقرار بل وتوزيع الثروة والموارد، فانتهينا إلى مؤسسات كثيرة تملك السلطة، مع نقص حاد في أي مؤسسة معارضة ولو بالحد الأدنى للرقابة والمساءلة.
(وقد فصلنا الفكرة في مقال سابق “العربة والحصان” خطورة ترف فكرة تزيين العربة الديمقراطية بالزركشات والزينة بينما الدولة- وهي الحصان “خلف العربة” هزيل ومتعب.)
لقد ازدادت الحالة بالتراكم تعقيدا في الأردن، مع تعميق فكرة مؤسسة العشيرة كفكرة بداوة تراثية، وإخراجها من سياقها الاجتماعي لتصبح توظيفا سياسيا – أمنيا، وعبر تقسيم أفقي لمجتمع يفترض أن المواطنة القانونية هي ما تجمعه، إلا أن الواقع الاجتماعي والسياسي في الأردن يضعك أمام انقسام يتجلى بكل عبثيته و تسطيحه مثلا في ناديين رياضيين، الوحدات والفيصلي، وبدلا عن مشاريع التنمية المدنية التي هدفت في السابق إلى توطين البداوة في مجتمعات حضرية تحول الأمر إلى توظيف البداوة والقبيلة والعشيرة كحائط دفاع أول أمام أي مطالبات مدنية، فننتهي موسميا بانتخابات قد تكون حرة في التصويت الحر، لكنها مزورة بتضليل الوعي الاجتماعي وتوجيهه بشكل غير مباشر إلى “مرشح إجماع العشيرة” الذي عادة ما يبحث عن ضوء أخضر ولو كان باهتا من السلطة ليضمن وصوله إلى مجلس النواب مشرعا.
في المقابل، كان الضوء الأخضر (الفاقع بوضوح) أيضا يمنح لرجال الأعمال الطارئين على المشهد السياسي ومحدثي النعمة المستفيدين والمتحالفين بنفعية خالصة بصفقاتهم مع نخب “شبحية”، وقد استعاضوا عن مؤسسة العشيرة بمؤسسة “المال السياسي” وانقلبوا من مقاولين وتجار إلى مشرعين قانونيين في البرلمان.
وبين البينين، كان التيار الإسلامي الذي وظف العشيرة والمال السياسي معا في معاركه الانتخابية حاضرا لملء مساحات شاسعة في فراغ الوعي المجتمعي، فنخلص إلى برلمان يعيد إنتاج نفسه منذ 10 سنوات بشيوخ قبليين ورجال أعمال بعقلية تجار الشنطة وإسلاميين يقودهم الإخوان المسلمون بأجندة اجتماعية استطاعت أن تصل بالمجتمع إلى حالة فصام اجتماعي بين ثقافته المحلية الأصلية وثقافة هجينة قادمة من الصحراء حينا وكتب سيد قطب حينا آخر.
حسنا، ها نحن اليوم أمام مؤسسة العشيرة، وهي تثبت حضورها “الوازن” والعقلاني أمام رأس الدولة نفسه، في وجه موقف خطير تداعى بعد مقتل ضابط أمن أردني برصاصة في الرأس خارجة عن سياق كل تلك الاحتجاجات، ضابط برتبة عقيد يحمل شهادة الدكتوراة الأكاديمية وتحتضنه اجتماعيا في حياته وبعد موته مؤسسة العشيرة.
المؤسسة التي اجتمع “عقلاؤها”، ومنهم من كان في موقع “رجال الدولة” ليوجهوا رسالة إلى الحكومة بأنها هي الخصم لا الحكم، برفضها تلقي العزاء من أي جهة حكومية، وبنفس الوقت شددت تلك المؤسسة عبر “حكمائها” بضرورة توخي الحذر وعدم استغلال الموقف “الغاضب جدا” في تعكير الأمن المجتمعي، ذلك الأمن الذي كان الضابط المتعلم والخلوق “رحمه الله” يقوم بواجبه للحفاظ عليه، والتقطت مؤسسة العشيرة “ممثلة بحكمائها الذين همشتهم نخب العاصمة” فكرة الدولة واستهدافها “الخارجي والداخلي” فشددت على تماسكها حول مؤسسة العرش، وقالت ذلك بحضور الجالس على العرش، رأس الدولة بذاته، وتوجه رسالة خطيرة “مرتين على الأقل في الفيديوهات التي تم بثها من بيت العزاء” إلى مجمل حركة الإصلاح السياسي الراهن بأنها قاصرة عن تحقيق أهدافها بدون استعادة الدولة ومؤسساتها من جديد.
لا يمكن أن تحل العشيرة مكان الدولة، هذا ما يقوله شيوخ العشيرة أنفسهم، لكنهم يطالبون الدولة ان تكون في مكانها “الدستوري والمؤسساتي” السليم.
ولعل عبارة الأكاديمي الدكتور نزار قبيلات – وهو ابن قبيلة أيضا- التي استوقفتني في تعليق عابر وعميق ومكثف كتبه بقوله” .. مؤخرا صارت العشيرة أكثر حكمةً وصبرا من النخب السياسية والحكومات، وصارت الدليل على الفشل، فشلنا في تحقيق مطالب السيادة والعدالة و التنمية.”!
وعودا على بدء..
فالدور الأردني الإقليمي ضرورة حياة للدولة الأردنية، لكنه لا يستقيم بدون إسناد داخلي يشعر فيه الأردنيون بجدية الإصلاح..إصلاح الدولة ومؤسساتها، وكثير من الحكمة الاقتصادية والحزم في إدارة نفقات الدولة الجارية، وهي نفقات يدرك الأردنيون “على تعددهم” فظاعة الهدر فيها وقد مست عيشهم بلا واستباحته بكل تفاصيله اليومية.
“الحرة”