ربما يكون من حسن حظ السوريين الذين جافاهم الحظ منذ زمن طويل، ووقف التاريخ والجغرافيا ومصالح الآخرين في وجههم، منذ أن وصل حافظ الأسد إلى موقع الرئاسة، أقول ربما يكون لمستجدات لا علاقة لهم بها دور آخر، فتسهم بإحداث نقلة نوعية في مسار الاستعصاء الطويل الذي فرض على ثورتهم، إذ تشاء الأقدار أن ينشغل الطرفان الأساسيان اللذان أنقذا نظام بشار الأسد من الانهيار، وتدخلا في الصراع السوري بكل ثقلهما، بمشكلات كبيرة متعلقة بهما، فروسيا التي أشعلت حربها مع أوكرانيا، بدأت تتخبط في تبعات هذه الحرب، وما خططت له أن يكون سريعاً وحاسماً، انفتح على احتمالات متعددة، ومتشعبة ويصعب على بوتين وفريقه ضبط تداعياته، وإيران التي تغرق شيئاً فشيئاً في أزمة داخلية ليست كسابقاتها باعتراف رؤوس كبيرة في الدولة وفي الحرس الثوري، والتي وقفت مع روسيا في حربها ضد أوكرانيا، مع ما يعنيه هذا من عداء لأميركا وأوروبا، تقف اليوم عاجزة عن الالتزام باستحقاقات وضعها الداخلي، واستحقاقات تمدّدها في أربع بلدان عربية غارقة في مشكلات وحروب بسببها.
لم تكن إيران لتتدخل بالشأن السوري بكل هذه القوة، لولا أن ما سعت إليه في تدخلها كان يرضي أطرافاً أخرى مثل إسرائيل وأميركا، ولم تكن روسيا التي تدخلت لاحقاً لتقدم على ذلك، لولا ما يشبه تفويضاً أميركياً، منحه أوباما لها بموافقة إسرائيلية، لكن ضمن محددات وضمانات قدمتها روسيا، وحاولت أن تعمل عليها ضمن رؤيتها الخاصة، فاخترعت لقاء سوتشي واتفاق سوتشي ومسار سوتشي، والذي استغرق أكثر من خمس سنوات، ليصبح بلا جدوى، وليموت بصمت حتى دون نعيه من أحد.
يبدو الملف السوري أمام تغيرات قد تكون في غاية الأهمية، لا سيما أن النظام السوري الذي كان يعتاش على الحقن الروسية والإيرانية، يبدو اليوم منهاراً تماماً
بانهيار اتفاق سوتشي، وبعجز روسيا عن تحقيق الضمانات التي قدمتها لإسرائيل وأميركا في الملف السوري، وبانتهاء الود الروسي الأميركي، والذي بدأت إرهاصاته الأولى في منتصف فترة رئاسة ترامب، وراح يتصاعد حتى وصل إلى ما يشبه المواجهة المباشرة بعد إعلان بوتين الحرب على أوكرانيا، وبتراجع قدرات إيران وحصارها، واشتعال داخلها بمظاهرات تجتاحها كلها، يبدو الملف السوري أمام تغيرات قد تكون في غاية الأهمية، لا سيما أن النظام السوري الذي كان يعتاش على الحقن الروسية والإيرانية، يبدو اليوم منهاراً تماماً.
لم يعد بإمكان روسيا الاستمرار في سوريا بالصيغة السابقة، فأعباء الحرب الأوكرانية الباهظة واحتمالاتها الخطيرة على الاقتصاد الروسي، وعلى مجمل أوضاع الاتحاد الروسي، ترغم روسيا على الانكفاء في سوريا، وعلى الانسحاب من معظم مناطق وجودها في سوريا، وحصره في قواعدها العسكرية على البحر المتوسط، هذا الانسحاب لا يستطيع الجيش السوري المتهالك أن يسد الفراغ الناتج عنه، وهو على الأرجح ما ستحاول إيران أن تفعله، لكن تمدّد إيران ليس مسموحاً من عدة جهات وفي مقدمتها أميركا، وهي بوضعها الراهن لن تكون قادرة على تحمل أعباء أخرى، لا سيما أنها تنهار في أكثر من جهة.
في هذه اللوحة تبدو تركيا هي الدولة الأكثر قدرة على اللعب في الشأن السوري، فهي الآن الطرف المدلل الذي يحتاجه الجميع، تحتاجه روسيا في حربها مع أوكرانيا، وتحتاجه أميركا وأوروبا في حربهما مع روسيا، وبالتالي فهي الطرف الأكثر حظاً بالحصول على توافق حوله، للقيام بدور أكبر في الملف السوري، لكن ليس الأمر بهذه السهولة لها، فتركيا أولاً قادمة على انتخابات صعبة، وأردوغان لا يريد أن يجازف بأي خطوة قد تؤثر على نتائجها، وهو أيضاً لا يريد أن يزج بجنوده في مناطق خطرة، لذلك يحاول أن يرتب صفقة مع النظام السوري، أي مع بشار الأسد، قبل أن ينهار النظام بشكل تام.
يأمل أردوغان من لقائه ببشار الأسد أن يضمن نقل سلاح قسد إلى النظام السوري، وانتقال السيطرة في المنطقة الحدودية شرق الفرات إلى سلطة النظام السوري، وهو بهذا يكون قد أبعد السلاح “الكردي” عن حدوده، وترك مهمة هذا الإبعاد لطرف آخر، ويأمل أن يتفق مع بشار الأسد على إعادة قسم كبير من اللاجئين السوريين في تركيا، وهذا ما سوف يساعده على سحب ورقة تبتزه بها المعارضة التركية، وهو يأمل أيضاً أن يتمكن مع النظام السوري، وبمساعدة الفصائل المسلحة المحسوبة على المعارضة والتابعة فعليا لتركيا، أن يبسط السيطرة على مناطق أخرى خارجة عن سيطرة النظام.
بشار الأسد لا يريد أن يساعد أردوغان في انتخاباته القادمة عبر إعادة اللاجئين، لأنه يعرف أن الورقة التي يستثمر بها خصوم أردوغان هي قضية اللاجئين
لا يبدو بشار الأسد متحمساً للقاء أردوغان، لأنه لا يثق به أولاً، ويعرف جيداً أن أردوغان يبادله عدم الثقة، ويعرف أن أردوغان لا يستطيع تعويمه حتى لو أراد ثانياً، خصوصاً أن قانون مكافحة تجارة المخدرات الذي وافق عليه الكونغرس الأميركي ومجلس الشيوخ، والذي اعتبر بشار الأسد طرفاً مهما في إنتاجها والتجارة بها، كان رسالة شديدة الوضوح، ويعرف بشار الأسد أيضاً، أن ما تبقى من جيشه قد أصبح عاجزاً عن القيام بما يطلبه أردوغان حول قوات سوريا الديمقراطية، وأنه لن يستطيع الوقوف في وجه إيران، فيما لو حاولت منعه من الالتزام بأي اتفاق مع تركيا، والأهم من كل هذا أن بشار الأسد لا يريد أن يساعد أردوغان في انتخاباته القادمة عبر إعادة اللاجئين، لأنه يعرف أن الورقة التي يستثمر بها خصوم أردوغان هي قضية اللاجئين، فضلا عن كون بشار لا يريد عودة أي لاجئ، سواء من تركيا أو من غيرها.
بتكثيف شديد تبدو اللوحة على النحو التالي:
- في مناطق سيطرة النظام، انهيار غير مسبوق للنظام ومؤسساته، انهيار اقتصادي شامل، عدم قدرة الدولة على ضبط عناصر الأمن والشرطة، ومنعهم من فرض الإتاوات ونهب المواطنين.
- روسيا تنسحب مرغمة من مناطق انتشارها في سوريا، ما عدا قواعدها الرئيسية.
- إيران التي اختارت الوقوف مع روسيا، وأمدّتها بالأسلحة في حربها مع أوكرانيا، لن تتمكن من معالجة مشكلاتها الداخلية.
- ما تطلبه تركيا من بشار الأسد لا يستطيع تقديمه.
كل هذا يضعنا أمام عدة احتمالات: فإما أن يترك النظام السوري ليتفسخ على مهل، مع ما يعنيه هذا من مرحلة قاسية جداً على السوريين في مناطق سيطرته، التي تشهد مرحلة انهيار شاملة تنعدم فيها شروط الحد الأدنى للحياة، وإما أن يتم الاتفاق على ترحيل بشار الأسد، والقيام بما يشبه انتقال سياسي بين أطراف من النظام نفسه، وإما أن يقبل بشار الأسد بما تطلبه تركيا منه، وهذا يعني تأجيل نهايته لكن لفترة قصيرة.
“تلفزيون سوريا”