اللافت في هذ المعرض هو أنه انطلق من فكرة أنّ الفن لا يجب أن يُنظر إليه فقط، بل جعله في متناول قدرة غالبية الناس المادية المحدودة، وذلك خلافا للمعارض الجماعية الأخرى التي نشهدها في صالات العرض البيروتية في الشهر الأخير من سنة 2022.
(حسين ماضي)
تبدو شجرة حسين ماضي، من حيث موقعها المركزي على القماشة، ومن حيث جزئها الأعلى المقتطع عمداً، أشبه بشجرة كوربيه، مع الفرق البديهي الذي يفرضه المدخل الحداثوي، من حيث الاختصار والتبسيط. الطيف الذي يتتبّع تدرّجات الأخضر لدى كوربيه تحوّل هندسة لونية لدى ماضي، لكن الإستقلالية الذاتية تبدو هي نفسها.
هذه المقارنة لا شأن لها بتقليد عمل ما، بل يجب القول إن الشجرة تفرض نفسها كحقيقة موضوعية، يتعامل معها كل صانع بلغته الخاصة. هذه الإستقلالية تغيب لدى محمد الروّاس، الذي تصبح الشجرة عنده جزءاً من تأليف، ومقطع من حكاية معقّدة. كذلك هي لدى فتاة بحمد، حيث تمتزج كلياً، أحياناً، بالمشهد العام، لكنها تعود إلى إستقلاليتها التي لا تعتمد التأليف المركزي لدى نزار ضاهر، لتصير، في شكلها العام، أشبه بأرزة ما زالت تزيّن رايتنا الوطنية التي تُرفع في كل المناسبات.
(محمد الرواس)
إتخذ المعرض عنواناً مبتكراً وغير عادي: “اهدني شجرة في عيد الميلاد”. يفيدنا العنوان بأنّ الشجرة تقع في صلب الأعمال المعروضة، وهي مناسبة للإطلاع على المقاربات المختلفة لهذا الموضوع. لكن ذلك يدفعنا، أيضاً، للإضاءة على هذه التيمة من وجهات نظر أخرى، يختلط فيها الشعر بالفلسفة والتشكيل والصورة الفوتوغرافية، في مراحل متفاوتة من تاريخ الأدب والفن.
يقول الشاعر الفرنسي سان جون برس: “شجرة كبيرة جداً/ أضاعت ثراءها/ وجهها محترق بالحب والعنف/ حيث لا زالت الشهوة تغنّي”. ويقول الكاتب الألماني ويلهلم مولر “وأغصانها تحترق / كما لوكانت تناديني/ إقترب مني أيها الرفيق / هنا ستجد السلام”. وكتب الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه: “لقد اعتدنا على رؤية الشخصيات كشخصيات، ومراقبة الحركات، واستنتاج أفعال الإرادة، في حين أن المناظر الطبيعية ليس لها شخصية [die Landschaft hat keine Gestalt]، ولا نريدها عندما تتحرّك. فيما يختص بالكائن البشري، يمكننا استنتاج الكثير من حركات اليدين، كما من الوجه الذي يشبه الساعة مع عقاربها، […] علينا أن نعترف أن المنظر الطبيعي مختلف تماماً، فنحن بمفردنا أمامه. ليس أقرب مع التواجد مع رجل ميت وحيدًا ومهجورًا، كما هو الحال مع الشجرة. حتى لو كان الموت غامضاً، فالأكثر غموضاً هي حياة لا تشبه حياتنا، تحتفل بأعيادها الخاصة، التي نحضرها كضيوف وصلوا مصادفة، ويتحدثون لغة أخرى”. (ريلكه – حول المشهد الطبيعي، مؤلفات نثرية، قصص وتجارب)
هذا المقطع المذهل، التي كُتب في بداية عام 1900، ما زال يلامس حواسنا حتى يومنا هذا. الأطروحة الرئيسية التي يدور حولها كلام الكتاب الرئيسي يتعلّق بالمحمية الطبيعية – الجمالية الواقعة بالقرب من بريمن: “المنظر الطبيعي، كما يقول الشاعر، من وراء دلالة الموضوع والنوع التصويري، غير مبال بنا، وموته لا يشبه موت الآخرين. هذا هو السؤال، إذ في حدود إنسانيتنا وطبيعة أفكارنا عن الجماليات، علينا أن ندرك أن الشجرة تعبّر عن طبيعة داخلية خاصة، وبالتالي فهي لا تواجهنا. إذاً، كيف نتعامل مع ما ليس له وجه وطبيعة داخلية لا نفهمها تماماً؟”
(نزار ضاهر)
في هذا المجال، هناك جملة من الأفكار – اللحظات التي من الممكن أن تخطر في بالنا. إن أول من أسس لمسألة التأمل الخاصة بالشجرة، في تحليل فريد من نوعه، هو ستيفان مالارميه في كتاباته الخاصة حول العمليات الطبيعية ومهمّة الشعر، التي لا تبتعد عن لهجة نيتشه وأفكاره، التي أكدها في وقت مبكر من عام 1867: “لكي يكّون الإنسان فكرة عن الطبيعة، يجب أن يفكر بجسده بالكامل، مما يعطي فكرة كاملة ومنسجمة مثل أوتار الكمان، التي تهتز فورًا في الصندوق الخشبي المجوّف”. الفكرة الثانية تتحدّر، في نظرنا، من الوظيفة الأولى العامة والرئيسة للشجرة، ومن استحضارها وتمثيلها الذي لا ينتهي، وهو المتراوح بين ما هو معدني وما هو حيواني، بين ما ليس بشرياً والإنسان، فالشجرة هي شرط المرور والتحولات. اللحظة الثالثة تحاول تسليط الضوء على منحنى تقليد نظري معين مرتبط باستحضار الشجرة ورسمها، وهو استحضار حائر بين التقليد الذي يجعل من الشجرة على الفور شكلاً داخلياً كاملاً ورمزاً للتناغم المنتظم والعدالة والخير، الحكمة والجمال والحقيقة، وبين التقليد المعاكس الذي يجعل الشجرة شخصية “مزعجة وخطيرة” لظاهرة خارجية لا يمكن استبعادها كما لا يمكن العيش فيها تمامًا، ولكن لا بد من إعادتها إلى المجال الإنساني والفكري.
بين الرؤيا والتحوّل
أراد مالارميه تبيان فكرة أن الشجرة هي أحدى الشخصيات الرئيسية والمحورية في عمليات التأمل التي يتم فيها التبادل والاتحاد بين البخاري والكثيف، الخفيف والجاد، الذات والعالم، الداخل والخارج، الذاتية والموضوعية. كما، من ناحية أخرى، ما بين الروح والجسد، الفكر والمادة، البشري وغير البشري، الصورة العمودية، المائلة، العضوية والمرتعشة للإنسان، وتمثيل ما هو غريب عليه لانه غير متحرك، إلى ذلك من أمور كثيرة.
هذه الوظيفة الوسيطة واضحة تمامًا في اللوحة الشهيرة التي رسمها بول غوغان عام 1888، تحت عنوان “رؤية العظة”، وهي، كما يفيد العنوان، الرؤية التي تخلف العظة، حيث يخاطر الرسام – بينما يتحايل عليها بدقة – بأن يصبح صاحب رؤيا. على المساحة المسطحة المقسّمة لهذه الصورة المتلألئة بشكل عشوائي، مع عدم وجود نقطة منظور من شأنها أن تحدد مكانًا للمشاهد وللمشهد، يدور الحدث حول قطر جذع شجرة تفاح. على نفس المستوى من المتن، من دون تفاوت وجودي ومن دون خلفية، نرى صورة نساء بريتون (من منطقة بريتاني الواقعة غرب فرنسا) بثيابهن التقليدية يقمن بالصلاة، وترتسم أمامهن صورة القتال الذي نشب بين يعقوب والملاك الذي عولج هنا على طريقة هوكوساي ( رسم ديلاكروا الموضوع نفسه في Saint Sulpice، عام 1861 ، مما ألهم Gustave Moreau أيضًا بعد ذلك التاريخ بقليل). عالج غوغان الشجرة كمادة خام تقريبًا، لأنها لديه ذات لون بني مسطح ونُفذت بأسلوب طفولي تقريبا، بعيداً من النمذجة. يسمح جذع الشجرة المائل بالمرور الأفقي من البصر إلى الرؤية ومن الرؤية إلى البصر، من معركة أسطورية إلى المشهد الريفي للبقرة السارحة في المرج، والواقع العادي القريب جدًا من مرجعية شرقية من حيث الأسلوب، من دون أن يسود أي من الطرفين على الآخر.
(فتاة بحمد)
من ناحية أخرى، فإن الشجرة تفلت، هنا، من “الإدانة” لأنها شخصية حياة وموت، حياة لم تُشبع بالكامل، وموت لم يتحقق بالكامل بدوره. فهي تشكّل نوعاً من الحماية، ومن خطر العبور من حالة إلى أخرى. هذا العبور المتحوّل سنراه في العقاب الذي تعرّض له Atys (كان في صلب الأسطورة اليونانية كإله للنبات والخضرة المفقوردة) لأنه هرب من حب Cybèle، فتحوّل حينها إلى شجرة صنوبر. أما Daphne’ فقد حمت نفسها من ملاحقة Appolon لها وتحولت إلى شجرة غار؛ وجرى تحصين Myrrha من معاناة سفاح القربى وعاره، بعدما حوّلها الإله إلى شجر مر (Myrrhe)، وهي شجرة لا تزال تبكي من خلالها، إذ كما يقول أوفيد: “شرفها هو في تلك الدموع التي تتدفق من الغابة الخشبية”. من هذا الخشب سيولد أدونيس بشكل مؤلم: “الشجرة، التي بدت وكأنها ستلد، تنحني، تتأوّه… وتنقسم، ويؤدي قطع اللحاء إلى جعل ثقله حياة” (الكتاب العاشر من روزنامة أوفيد، حوالي 500-510). هكذا، يتحول الانتقال إلى فرصة – ميزة متأصلة في الشجرة، وهي المرور- الإنتقال من العقوبة إلى الحماية أو الحفاظ على الكائن.
الشجرة الوحيدة
يمكن فهم طبيعة نتاج الفنانين في الرسم، أو في تصوير المناظر الطبيعية فوتوغرافياً، عندما يستنفدون أنفسهم ليس في تمثيل الأشجار والغابات، وإنما حين ينحصر إهتمامهم بشجرة فريدة كما في جذع الشجرة لجون كونستابل (1821)، وفي بعض الصور التي التقطها يوجين كوفيلير، غوستاف لو غراي، أو هنري لو سيك، أو في Chêne de Flagey (1864) التي رسمها Gustave Courbet. لأنه، هنا، ليست الذات البشرية هي التي تُعرِّف نفسها في غيرانية الشجرة، بل إن غرابة الشجرة هي التي صُنعت كي يُنظر إليها على أنها نفس الإنسان. في الواقع، إن Le Gray ليس مجرد منظر طبيعي؛ إنها صورة لشجرة ممثلة في نفس اللقطة المقربة التي أحبها كوربيه عندما أنتج الصورة الواقعية، ولكن غير المحاكية، وذلك من خلال قطع الجزء العلوي من الأغصان بعنف، والذي يمتثل بشكل متماثل، وعلى مستوى العين، جذعًا ضخمًا وأغصانًا قوية، وفقًا لتعبير هيغل، “لا يبدو أنها مدعومة من الجذع، ولكن في شكل انحناء طفيف، تبدو وكأنها استمرار للجذع، وتتشكل مظلة من أوراق الشجر”. حتى أن كوربيه يقوم بأكثر من مجرد صورة لشجرة ذات كثافة تتموّج كمادة معدنية، يتجلى صفاؤها المهيب أو المقلق في ذاك هذا الاحتياطي الفني، والغنى الداخلي الموجودان في جميع البورتريهات العظيمة. يصنع كوربيه أيضًا صورته الذاتية من خلال رسم الشجرة الأكثر فخامة في بلدته الأصلية من الخارج، وهي في الواقع صورة مرسومة من الداخل، ليس من داخل فكرة أو تمثيل، ولكن من داخل الشعور بجسدها المادي الخاص. الرجل والشجرة يتواصلان ويتعرفان بصمت على بعضهما البعض؛ يفعلان ذلك في خضم نوم عميق وغير شخصي، يغلف كل الأشياء لدى كوربيه، الرسام، والحيوانات، والطبيعة كلّها، والذي يضفي على كل شيء وجوده، أي أنه يتزامن مع نفسه.