تشهد سوريا، بفعل تراكم الحوادث الأمنية والعسكرية، فوضى في انتشار السلاح بين المدنيين والعسكريين، ما عرّض ويعرّض المجتمع بأكمله لمخاطر جمّة، تتمثل في استسهال استخدامه من الأفراد على اختلاف مشاربهم عند أي مشاجرة أو حادث أو مشكلة أو خلاف مهما بلغت بساطته.
يمكن ردّ الأمر إلى الكثير من العوامل، أبرزها كثرة التشكيلات العسكرية التي أفرزتها الحرب السورية، سواء تلك المنضوية تحت جناح الحكومة بشكل أو بآخر عبر التسميات الرسمية أو شبه الرسمية كمثل القوات الرديفة، أو تلك التي تشكلت وأخذت موقعها القتالي على خريطة سوريا العسكرية في المواقع التي تقع خارج سيطرة الحكومة، وعلى وجه الخصوص في إدلب، وأرياف حلب، أو مناطق سيطرة “قسد” شمال وشمال شرقي سوريا.
المشترك بين كل أولئك الأشخاص استخدامهم السلاح في غير مكانه – أي خارج الجبهات – وليس فقط في المناسبات كرأس السنة أو الأعراس، بل وفي تحصيل الحقوق أو في الخلافات الشخصية التي يمكن أن تكون من البساطة في مكان أن تكون خلافاً على دور في الطابور على محطة وقود، أو تجاوز سيارة في الطريق.
أبسط الأسباب
كثير من حالات استخدام الأسلحة التي أفضت إلى القتل تتكرر يومياً، وغالباً ما تكون لأسباب غير منطقية، ولكن تشنج المجتمع بصورة عامة، واستسهال عمليات القتل من ناحية أخرى، كلها نتائج أوصلت المجتمع إلى ما هو عليه الآن. وليس من باب المبالغة القول إنّ على السوري أن يفكر مراراً قبل أن يعترض على شيء يحصل أمامه في طوابير حياته اليومية.
فدائماً ثمة مخالفون لأدوار الطوابير، يأتون من الخلف ويلتفون ويصيرون في المقدمة، ثم تحصل المشاجرات وتُسمع أصوات إطلاق النار، وتبعاً لحظ الموجودين، فإما تمرّ الحادثة بسلامة أو تفضي إلى قتلى، كما حصل قبل أيام في إحدى كازيات (محطات الوقود) دمشق الحكومية حين أشهر أحد سائقي السيارات سلاحه وبدأ إطلاق النار في الهواء بعد خلاف مع سائق آخر لم يسمح له بتجاوز الدور.
انتشار الفساد في توزيع السلاح للمقاتلين وغير المقاتلين بعد دفع مبالغ مالية لقاء الحصول على تسهيلات بحمله من جهة، أو الحصول عليه بطرق غير قانونية في أحيان أخرى، هو ما أسهم بصورة جليّة وواضحة في هذا الانتشار الكثيف.
سلاح وبطاقة تسهيل مرور!
“حصلت على بندقية آلية كلاشنيكوف من أحدى التشكيلات العسكرية الرديفة مع بطاقة عسكرية لحمل السلاح وتسهيل المرور على الحواجز لقاء مبلغ مليون ونصف مليون ليرة سورية (أقل من 300 دولار أميركي)”، يقول أحد الحاصلين على السلاح بغير وجه حق أو داعٍ.
وكذلك تكفي جولة في شوارع المدن السورية عامة للحظ أعداد حاملي السلاح، فالأمر لم يعد مخفياً أو يرزح تحت طائلة الخوف من السلطات. السلاح صار متاحاً للجميع تقريباً، وإن تعددت وسائل الحصول عليه، صعبت أو سهلت، ولكن بالنتيجة من يريد سلاحاً سيحصل عليه.
مرسوم رئاسي
في الإطار يتضح عجز الدولة عن ضبط الأمر واستيعابه وتخفيف مخاطره والحد منها، ما جعل المواطن في كثير من الأحيان تحت تهديد القتل في أكثر من موقف وأكثر من مكان، ولكن هل فعلاً الدولة عاجزة عن ضبط تلك المظاهر؟
هذا سؤال يجيب عنه الحقوقي ماهر علّاف، محيلاً إيّانا إلى المرسوم الرئاسي الأخير الذي صدر خلال الشهر الفائت والذي يشدد العقوبات على حائزي السلاح من دون ترخيص.
يقول علّاف: “نص المرسوم صراحة على تشديد الغرامات والعقوبات المتعلقة بتصنيع وتهريب وحيازة الأسلحة والذخائر، بقصد الإتجار بها لتصل إلى السجن لمدة 20 عاماً، وبغرامة لا تقل عن ثلاثة أمثال قيمة الأسلحة أو الذخائر المضبوطة”.
وجاء في المرسوم أنّه يُعفى من العقوبة الحائزون أسلحة حربية أو ذخائر غير قابلة للترخيص إذا سلّموها إلى أقرب مركز لقوى الأمن الداخلي خلال تسعة أشهر من تاريخه، ويُعفى من العقوبة أيضاً الحائزون أسلحة أو ذخائر أو ألعاباً نارية على وجه مخالف لأحكام المرسوم التشريعي الرقم 51 إذا طلبوا ترخيصها وفقاً لأحكامه أو سلّموها إلى أقرب مركز لقوى الأمن الداخلي خلال تسعة أشهر من نفاذ هذا القانون.
ولكن علّاف يرى أن الأمر ناقص لكونه جاء فقط على ذكر مالكي الأسلحة غير المرخصة، بيد أنّ المشكلة بنصفها على الأقل هي بمالكي الأسلحة المرخصة الذين، على حد تعبيره، يستخدمون سلاحهم في المناطق الآمنة أكثر مما يستخدمونه على الجبهات.
لذا، وبحسب علّاف، فإنّ الحل يجب أن يتضمن سحب السلاح بصورة تامة من كل التشكيلات غير العسكرية النظامية، ومن ثم إعادة توزيعه على مستحقيه، مع تغليظ العقوبة على حاملي السلاح داخل المدن والذين يندرج حملهم للسلاح قانوناً تحت تسمية “إرهاب مدينة”.
القانون النّسبي
“النهار العربي” تواصل مع الشاب رامي. م الذي رخص مسدساً في عام 2014 رسمياً من وزارة الداخلية، يقول: “رخصت سلاحاً بقصد الدفاع عن النفس في حينه، فمنزلي كان يقع على خط التماس في حي السبيل في حمص”.
ويضيف: “حصلت على الرخصة بعد دراسة أمنية من فرع الأمن السياسي، ثم حولوني إلى شرائه من “الغوتا” فحصلت هناك على سلاح براونينغ عيار 9 بمبلغ نحو 300 ليرة سورية في وقتها، مع رخصة صالحة لمدة خمس سنوات، قابلة للتجديد باستمرار”.
وعلى النقيض تماماً يمتلك محمود. ج حجته، وهو المقاتل في صفوف الدفاع الوطني (تشكيل شبه عسكري)، إذ يستهل كلامه بالقول: “إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، وهذه حال المجتمع في سوريا اليوم، سلاحي لا يفارق خصري، ففي أي لحظة قد يحصل خلاف وتجد الآخر أمامك قد استلّ سلاحه في وجهك، لذا لا يفارقني سلاحي وأنا مستعد لاستخدامه في أي لحظة”.
وحين سؤاله إن كان مستعداً للقتل إذا ما اضطر لإشهار سلاحه يقول: “إن كان ولا بد فأن أكون قاتلاً أفضل من أن أكون قتيلاً”.
المدير المسلّح
وفي سياق مشابه يروي مراد نصرة، وهو تاجر مفروشات من حمص، قصة حصلت معه قبل أعوام، إذ نشب شجار بينه وبين صاحب سيارة كان يريد مزاحمته على الدخول قبله على حاجز التفتيش في مركز مدينة حمص، تعالت أصوات الطرفين، فما كان من الشخص الآخر إلا أن أشهر سلاحه ولقمه وصوبه نحو التاجر.
يقول نصرة: “تدخل على الفور عناصر الحاجز ومرّت القصة بسلام رغم أن تلك اللحظات كانت تعادل عمراً بأكمله، والصدمة الكبيرة كانت أن ذاك الرجل الذي يرتدي زياً رسمياً هو المدير العام لإحدى أكبر الشركات العامة في سوريا”.
ويضيف: “ما كان من عناصر الحاجز إلا أن حوّلوا كِلينا إلى فرع المخابرات الجوية، وهناك تدخل أحد الضباط وجرت المصالحة بعد مصادرة سلاحه الذي تبين أنّه حصل عليه عبر دفع مبلغ مالي لإحدى الجهات شبه العسكرية”.
استسهال حمل السلاح
فوضى السلاح في سوريا أرهقت المجتمع وأخافته وشكلت أداة لشريحة واسعة منه للاحتماء خلفه والاقتصاص من آخرين، لأسباب مختلفة ليس الثأر أبرزها، ولكن “التشليح” و”التشبيح” و”البلطجة” هي سماته الأبرز.
لا تمرّ بضعة أيام من دون أن يسمع السوريون خبر انفجار قنبلة بأحدهم، أو إطلاق نار بين أناس مختلفين، وآخر تلك الحوادث قبل أيام إثر خلاف عشائري غرب السويداء راح ضحيته أشخاص عديدون.
استسهال استخدام السلاح، وسهولة حمله والحصول عليه، ينذران بكارثة مجتمعية، بل تحميل المجتمع أكثر من طاقته، فتواتر الجرائم التي تحصل يمكن وصفها بـ”المرعبة”، والسوريّ بات اليوم مهدداً بالموت القريب أكثر مما كان مهدداً بالموت من القذائف ورصاص القنص.
إذ كيف يمكن لشخص أن يعيش مطمئناً وهو يعلم أن أقراناً له يسرحون بأسلحة على خصورهم، وهم مستعدون لاستعمالها في أي فورة غضب، بل وفي أي موقف تستدعي فيه “رجولتهم” استخدامه.
مقالة سلطوية
اللافت والمركب أيضاً أنّ صحيفة “البعث” الناطقة باسم الحزب الحاكم في سوريا أشارت علانية في مقالة نشرتها في وقت سابق إلى فوضى انتشار السلاح ومخاطره، حيث أوردت ما مضمونه أنه لم يعد انتشار السلاح أخيراً مسألة فردية، فمشهد المسدس والبندقية والقنبلة أصبح أمراً أقرب إلى الاعتيادي في أي شارع ومنطقة سكنية، وما خلّفته الحرب جعل استساغة استخدام السلاح خطراً وصل في أوقاتٍ كثيرة إلى أيدي حتى الأطفال، إذ بات أسهل طرق التعبير عن الغضب أو الفرح عبر استخدام السلاح! وما أثارته الجرائم الأخيرة لم يقف على عتبة وسائل التواصل الاجتماعي وحسب، بل شكلت رفضاً واسعاً للسكوت عن حيازة الأسلحة، ومطالب جدية بمعالجتها.
وإذا ما كانت صحيفة “البعث” بما تمثله من توجه سلطوي قد أشارت إلى الأمر، والرئاسة أصدرت مراسيمها، ومجلس الشعب أجرى تعديلات على أصول حمل السلاح، فمن أين كل ذلك السلاح إذاً؟
هذا سؤال يُقرأ جوابه من طبيعة تركيب السلطة في سوريا، والتي تجري إلى الأمام في مواجهة مشكلاتها، وتتهرب من مشكلاتها عبر قرارات هي تعلم مسبقاً أنّ تطبيقها يحتاج إلى الضرب بيد من حديد، ولكنّها لم ولن تضرب، وهذا مفهوم، ذلك أنّ حمل السلاح بات يشكل هاجساً لشريحة واسعة من السوريين الذين يرون في الأمر انتصاراً على أقرانهم، ومدعاةً للفخر، وسبيلاً للشجاعة والتميز والقوة، وفي حال سحب السلاح منهم، سيصيرون مثلهم مثل أي مدنيّ آخر منزوع الصلاحيات، فتخسرهم السلطة وتخسر شيئاً من ولائهم، وهو ما لا تريده بكل تأكيد.
الحل يحتاج قراراً
وإلى حين تصطلح حال المجتمع السوري، وتقرر السلطة أن تتعامل بجدّية مع الأمر، وأن توقف سيل الدماء الناجم عن تلك الممارسات في المناطق الآمنة، يكثر الحديث أو يقل، ولكن في المحصلة، حكومة امتهنت بكل طاقتها تجويع شعبها لمصلحة إثراء سادة الحرب الجدد، لن تبالي بقتيل زائد، أو ألف آخرين، حقيقة هي لن تبالي سوى بمكتسباتها الفردية التي تضمن لها الاستمرارية على رأس سلّم “البزنس”.
“النهار العربي”