ونحن نسير في شوارع عامة، سوف نُصادف باعة على الرصيف، ومن بين الأغراض التي يعرضونها على المارة، سوف نعثر على أكياس حناء مرفقة بقالب وشم. فالحناء التي ارتبطت، في عقود ماضية، بالأمهات والجدات، يستعن بها في تخضيب شعرهن، أو في تلوين بواطن أقدامهن أو راحة أيديهن، كما كنا ينتفعن بها في خلطات مع أعشاب أخرى للتداوي، وبعدما كانت الحناء تقام لها حفلة في تخضيب يد العروس ليلة الدخلة، صارت حقا مشاعاً متاحاً لليافعات ولغير المتزوجات بغرض الزينة. وسيد الزينة في الزمن المعاصر، هو الوشم، الذي يرتسم على الساعدين أو أسفل العنق، على الكتفين أو أسفل الحوض.
لقد غيرت الحناء من وظائفها، مثلما غيرت النسوة من أشكال تعاطيهن معها. واللجوء إليها، بدل الوشم الحقيقي، له وازع ديني. بالتالي فإن تلك الصبغة تنوب عن الوشم الصريح، رغبة منهن في الظهور في كامل حسنهن، فالبديل صار ممكناً بالاعتماد على الحناء، التي يسهل محوها، لكن هذا التعلق بالديني لم يمنع من ظهور بزنس الوشم، في المدن الكبرى، وبات من العادي أن نصادف صالون تجميل يمتهن الوشم في العاصمة أو وهران، بل هناك من يُمارس حرفته في الخفاء، حذر تلصص الأعين، ومن الرجال من يتخذ الوشم صورة من صوره، لغرض الزينة أيضاً أو لأسباب أخرى سنأتي على ذكرها. لقد تعددت أسباب اللجوء إلى الوشم، وإن كان البعض ينكر هذه الممارسة، فقد شاعت، وقصد فهمها لا بد من أن نستدعي ماضيها.
استعادة الكرامة
يقول المثل الشعبي في الجزائر: «اللي فاتته الرجلة يتبعها بالوشام» بما معناه أن من خانته الشجاعة أو فقد كرامته، فبوسعه أن يرهب غيره بوشم على ساعده أو يده أو أسفل عنقه، وهذه الممارسة سوف تجد بيئة لها، لاسيما في السجون، حيث أن بعض السجناء يوشمون أنفسهم بشفرة حلاقة، أو أي آلة حادة أخرى تتاح لهم، ليس من باب الزهو بالنفس أو اقتناعاً بما فعلوا، بل هو إرهاب لخصومهم المحتملين في الزنزانة. فلا يخفى على أحد أن السجن مساحة حرة للمصارعة اليومية بين المساجين في ما بينهم، ومن يتنازل عن حقه سوف تدوسه آلة الإكراهات، لذلك يميل السجناء إلى الوشم لتجنب أن يقترب منهم الآخرون، فيلزمونهم بقوانينهم. في هذا الصدد يصير الوشم بيان هوية، إنها لغة خفية يُخاطب بها الإنسان غيره، وهي جزء من انتماء الفرد، هذا هو التعريف الأساسي للوشم، حيث أن الأجداد كانوا أيضاً يُمارسون الوشم، وهناك الكثير من كبار السن لا يخفون وشومهم، لكن تلك الممارسة في الماضي لم تكن على صلة بزينة أو من باب استعراض الفتوة، بل الوشم حينها كان يعني انتماءً إلى عشيرة أو إلى جماعة إثنية، كان الأولياء أيضاً يوشمون البنت الجميلة، حذر أن يدنو منها الرجال قبل الزواج، وأخريات يوشمن بغرض توصيل رسائل إلى الرجال في الجبال سنوات حرب التحرير، العازبات منهن يرسمن خاتما في أصابعهن في انتظار خاتم حقيقي، لذلك نصادف تشابهاً في وشوم الأجداد، نظير انتمائهم إلى الفرقة العرقية ذاتها، أو بسبب توصيلهم الرسائل عينها. كما كان الوشم أيضاً عاملاً في تمييز الساكن الأصلي من الوافد إليها، لقد كان مسألة سياسية، عكس ما هو متعارف عليه في الوقت الحالي. ذلك الوشم الذي يظهر على ملامح الأجداد هو أشبه بخطاب، يميزون فيه فيما بينهم. فالوشم ليس فعلاً بريئاً، بل يتضمن حمولة عرقية وأخرى سياسية.
لم يعد الوشم لصيقاً بصفة السجين السابق، بل هو حاجة تفرضها رغبة الإنسان في الظهور بالمظهر الذي يرغب فيه، صارت دوافعه جمالية لا فرضاً على فئة دون غيرها.
في مديح الوشم
قبل سنوات، قدم الباحث مهدي براشد أطروحة مهمة بخصوص الوشم تحت عنوان: «الوشم المنظوم في النظم الموشوم» استعاد فيها حضور الوشم في المتن الشعري، لاسيما الشعر الملحون في الجزائر. ونتذكر قصيدة «الوشام» لابن مسايب، الذي عاش في القرن الثامن عشر، وجاء في مطلعها: «يا الوشام دخيل عليك/ كن حاذر فاهم نوصيك/ اخفض والخفض يواتيك/ منيتي بالك تاذيها» وهي قصيدة استعادها كثير من المغنين، على غرار الراحل بلاوي هواري. ففي زمن مضى كانت العائلات الميسورة تجلب الوشام إلى بيت، تدفع له مالاً وفيراً، قصد توشيم أجمل البنات. عدا تلك القصيدة سنعثر على رصيد واسع من القصائد الأخرى، التي جعلت من الوشم ثيمة لها. فهذا الوشم الذي يرجع تاريخه إلى تاريخ الإنسان، والذي كان جزءاً من هوية الفرد لم يصر مادة للتجميل سوى في العقود الثلاثة الماضية. عقب الاستقلال في 1962 ظن الناس أنه سوف يختفي بانقضاء أعمار الأجيال القديمة، لكنه عاد مرة أخرى للظهور. لقد صار ممارسة ديمقراطية، يحق فيها لكل فرد أن يعلن انتماءً ثقافياً أو يظهر زينة بالتوجه إلى صالون وشم، هذه الصالونات التي بدأت من أمريكا قبل أن تصير تجارة رائجة في أوروبا، لاسيما في فرنسا، ومن هناك وصلت إلى الجزائر. فبعدما كان الوشام يطوف الأسواق، أو يترصد حفلات الزفاف، بحثاً عن زبائن له، بات له مستقر والناس يأتون إليه وليس العكس. كما إن إزالة الوشم لم تعد عملية صعبة، باستخدام الليزر. فالإنسان القديم الذي كان يخضع للوشم بناء على وصية الجماعة وقوانينها، بات اليوم هو من يحدد هويته، هو من يختار الوشم الذي يرغب فيه، ويحدد الجماعة التي يود الانتماء إليها.
إذن لم يعد الوشم لصيقاً بصفة السجين السابق، بل هو حاجة تفرضها رغبة الإنسان في الظهور بالمظهر الذي يرغب فيه، صارت دوافعه جمالية لا فرضاً على فئة دون غيرها. مع ذلك نلاحظ، في الأوساط العمرية الشابة، تفاوتاً في طريقة النظر إلى الوشم، فهو ينتشر في بعض الأوساط كتعبير فرد على قربه من البحر، أو تخليداً لذكرى شخص عزيز عليه، أو تذكيرا بحادث لا يود أن يمحى من ذاكرته. وإن كانت الأديان الإبراهيمية تنظر بعين الريبة إلى الوشم، فهناك من يوشم للغرض الديني في حد ذاته، كما كان يفعل الحجاج من الجزائر، في قرون ماضية، من يُتم منهم الحج ويعود سالماً إلى أهله، يضع وشماً للتفريق بينه وبين من لم يؤد مناسك الحج.
روائي جزائري
“القدس العربي”