يا خاطبَ القهوة الصّهباءِ
يا مَهرُها بالرّطلِ يأخذ منها مِلأَه ذهباً
أبو نواس
تقرصُ النسماتُ الباردةُ أنفي، فأرتعشُ مِثل عصفورٍ ينفض عن ريشهُ حبات المطر. يتبدى الغيم من النافذة نُدفاً رقيقةً، كأنَّ يداً تُحيكهُ غطاءً يُظلّل الروح. وتَبتسم الوردة على طرف شباكي، تميل شجرة الكستناء المعمرة نحوي، تَغمزُ لي بأوراقها المزركشة وتتراقص بغنجٍ، فأبتسم، وأتذكر جدتي «شَتوة».
كان اسمها رقيقاً مثل حاكورتها العامرة بالأشجار والورود. زرعت شتوة «ياسمينة بلدي» قرب درجٍ يصل الدار القديمة بالدار الجديدة. وكلما هبطتُ الدرج شممت رائحة الياسمينة ممتزجة برائحة القهوة المرّة القادمة من مضافة جدي، فتدور بي الأرض تحت سماء الخريف، وتخطفني إلى أحلام يقظة لا تنتهي. علمتني شتوة الإصغاء للنباتات، وكانت أمي تدعوا لنا «الله يحنن خلقه عليكم» ومن يومها؛ لي من كل مدينة أشباحها وأشجارها، ورودها ونباتاتها وقهوتها.
أفتح علبة البنِّ، فأشم ياسمينة شتوة ورائحة الغيم مختلطة برائحة تراب حوران الأحمر. يمر فصل الخريف على برلين فتورق بألوان مدهشة. يمر المُشرَّدون تحت نافذتي، سكارى يلملمون خيباتهم. وتعصف القضايا الكبرى في رأسي الثقيل، ماذا سيهدِّئ دوار العالم في رأسي، سوى شجرة البنّ المقدسة.
أملأ دلة القهوة ماءً نقياً، فالبنّ نبتة حساسة لا يُظهر طعمها سوى نقاء الماء. أضع ثلاثة معالق وأُحركها من الأعلى إلى الأسفل. تنبعث الرائحة من الركوة، فأشعر بروحي تطفوا خفيفة فوق سماء المدينة. للقهوة مذاق الاحتضان بعد غياب، ورائحتها كالنشوة في الحب، واللمس بعد البُعد. إنها تعويذة قادمة من عالم آخر نستهل بها صباحاتنا. ولا شيء أجمل من إعدادها لمن نحب. ولو أني أستطيع، لأسميتُ هذا العالم:عالماً من قهوة.
*****
ورث جدي «أبو قاسم» مضافة كبيرة بناها جدّهُ آخرَ العهد العثمانيّ من حجارة حوران البركانية. وتحت قناطرها تعلَّمَ صناعة القهوة العربية المرّة. كان يختار البنّ اليمنيّ بعناية، ينثر حباته فوق سطح المحماس الملتهب، فتنتشر رائحتها الذكية في كل مكان، ثم يأخذ حباتها المحمّصة بيديه الدافئتين ويدقها بالمهباش المصنوع من شجر البطم. وكانت عيناه تستغرقان في حباتها وهو يهَب لها من روحه، كأنه ملاك سقط من الجنة. وإلى جانبه يخرج صوت فيروز عذباً من مسجل صغير. أقرفص أمامه وأتلذذ بموسيقى الأصوات الصادرة من تحميص البنّ، تنسدل على كتفيه قضاضة بيضاء لافاً في عباءته قصص فرسان الزيدي وثورتهم ضد الفرنسيين. وفي ابتسامته الرقيقة كانت تشرق آيات القرآن التي كان يتلوها عند صلاة الفجر، كأنه كان يبث روحانيات المشرق لقهوته المرة التي أدمنتُ شربها مذ كنتُ ولداً صغيراً.
هاجرت القهوة من اليمن كما هاجرت جذور عائلتي من هناك، ومن ميناء موخا انتشرت في جميع أنحاء العالم. تحولت القهوة في بلاد الشام والعراق إلى نوع من أنواع النبيذ. وأطلق على أجود أنواع البنّ في العالم اسم القهوة العربية (أربيكا).
الكيف ما هو كيف تتناً وتنباكي
هضاك دخان يحطن العلالي
وانا أعلمك بالكيف يا مدور الكيف
الكيف تقليط الدلال الصهاوي
كان أبو قاسم يغليها ساعاتٍ طويلة، فكلما زاد غليانها كلما اكتسبت طعمها المرّ اللاذع. ثم يضيف لها «الشربة» في اليوم التالي لتصبح أكثر سماكة. يضعها في الترمس للحفاظ على سخونتها. وباليمنى يقدمها للضيوف بالفناجين المزركشة. كنت أستيقظ مع جدتي عند صلاة الفجر، وأهبط الدرجات مسرعاً لأراقب أبو قاسم يهيئ هذا العالم بالقهوة، كأن نجوم المشرق قد سقطت في دِلالهِ، فتشرق سماوات الشتاء القاسية في التعاليل.
وفي مطبخ الدار الجديدة كانت أمي تصنع القهوة «الحلوة». تدير الراديو على إذاعة الشرق وتبدأ بإعدادها بكامل أناقتها. كانت تقول لي: لا تصنعها على عجل، انها مثل الحبّ يجب أن يتدفق بهدوء وروية. تملأ الركوة من الماء الصافي، ثم تُشعل النار تحتها وتراقب الماء حتى الغليان. وعلى أنغام فيروز القادمة من المذياع تفتح علبة البن وتضع عدة ملاعق وتبدأ بتحريكها من الأسفل إلى الأعلى، كما لو أنها تجذّف في بحرها الواسع، تحركها بعناية كي لا يختفي وجهها أثناء الغليان. تختار أجمل الفناجين وتضعها على صينية مذَّهبة، مع كأس ماء بارد وقليل من البيتيفور، ثم تعود نحو الصالون وتجلس قرب النافذة مع خالتي نوال. تغمر الشمس وجهيهما، فتبدوان كما لو أنهما هاربتان من إحدى لوحات مونيه. ماذا لو أن القهوة لم تكن موجودة في حياتنا؟ من أين سنتحلى بالصبر على حياة البؤس الثقيلة؟
*****
تجعل القهوة المدن أكثر ألفة. تحيك حضورها وترتب صباحاتها. كانت دمشق بالنسبة لي امتداداً لحاكورة شتوة ومضافة أبو قاسم، فالبنّ والياسمين مثل وشم على كتفها. تتسلّلُ رائحتها في الحواري القديمة، تموج مع حارتها، وتترك في كل حارة سراً ما. ومع كلِّ سر تنمو روح المدينة، فالمدن التي لا تمتلك اسراراً وتضاريس مدناً عقيمة. صعوداً وهبوطاً تتبعثر المقاهي كشامات في جسد امرأة شامية. تسير معها مثل لحن يترك في النفس حزناً وفرحاً غامضاً لا يفسر، تترك في فمك وذاكرتك مرارة تشبه مرارة الحب.
من باب توما حتى أبو رمانة، يُحمَّص البنُّ بين الجدران القديمة ويسيل على ألسنة أهلها قصصاً وحكايا. من قهوة موليا وع البال وصباح ومسا حتى مقهى النوفرة والحجار والكمال ومقهى هافانا ومقاهي الشعلان وأبو رمانة نُسجَ تاريخ المدينة، كُتبت فيها الروايات والقصص، وكُتبت قصائد الشعر.ضَمت هلافيت المدينة ومتسكعيها وساستها الهاربين من جور السلطة. كانت تلك المقاهي نفساً أخيراً في مدينة تكابد الحياة.
في المقهى الصغير على كتف الجامع الأموي كنت أختبئ مع أصدقائي، هاربين من المدرسة أيام الشتاء. نجلس قرب النافذة المطلة على ياسمينة هرمة، ونصغي إلى أم كلثوم وهي تغني (أنا في انتظارك مليت) ومثل قطط الشوارع كنا نرتجف من البرد ونراقب حبات المطر وهي تتساقط منتظرين شيئاً ما.
قبل مئة عام كان شباب دمشق الهاربين من «السفر بلك» يلجئون إلى هذا المقهى الصغير هاربين من الشاويش وعناصره. يحذوهم الفتية الصغار، فيركضون إلى المقهى صارخين «دخلك خبيني». أمضيت خمس عشر عاماً أجلس فيها، هارباً من المدرسة. أطلق أبو عادل عامل مقهى «خبيني»عليّ لقب الدكتور، فقد عرفني فتىً صغيراً يمسك الكتب السميكة ويجلس قرب النافذة ويشرب فناجين قهوة لا تعد.
اندلعت الثورة كثيفةً ومرةً كالتفل في الفناجين، وبدأت المظاهرات الطيارة تجوب أحياء المدينة بعد سحق مظاهرة 25 آذار (مارس)، التي خرجت من الجامع الأموي. وانتشر المتظاهرون في المقاهي يختبئون فيها عقب مطاردات الأمن، يتناقلون أخبار المناطق الثائرة. ومن الجوامع كنا نخرج لنلتجئ إلى أقرب مقهى يمكن أن يخفي علامات التظاهر علينا.
بعد مظاهرة طيارة في أزقة المدينة ركضت هرباً من المخبرين وعناصر الأمن. دخلت إلى أقرب مقهى كانت في طريقي. لم أصرخ «دخلك خبيني» لكنني جلست خائفاً مرتعداً، فاقترب مني أبو عادل ونظر في وجهي مطولاً ثم ابتسم، وصرخ بصوته الجهوري: أحلى فنجان قهوة للدكتور.
وفي مقهى الروضة كانت نظرة واحدة من صديقنا كفيلة بأن نعرف أين يجلس عنصر الأمن، أو دورية المخابرات، لننهي حديثنا عن الثورة. صديقنا هذا كان واحداً من عمّال المقهى، وكان كلّما وضع أمامنا فنجان قهوة يصرخ بصوته الجهوري: أحلى فنجان قهوة لأحلى شباب الشام، قرّبت عمي، رح نخلعه لهل السن المسوس، ويُطلق ضحكة ساخرة. التقيته في إحدى المظاهرات التي خرجت من جامع في شارع بغداد. كان ينهال ضرباً على أحد الشبيحة، تلاقت نظراتنا وقال لي ضاحكاً: والله لنخلعه لهل السن المسوس. كان يقدم لنا القهوة كالملوك. يبتسم في وجوهنا ويضع الكأس الغامق أمامنا ويقول: صحتين وعوافي.
*****
شربت قهوة الاسبريسو للمرة الأولى في مقهى «بيجز»مع بداية الثورة. تحوَّلَ المقهى في ساحة النجمة إلى مكان لتجمع مؤيدي الثورة، وكان مدير المقهى آن ذلك يُغطّي على جلساتنا ويحذرنا في حال تواجد عناصر للأمن أو وجود مخبرين. أحببت مرار قهوة الاسبريسو، فقد كانت الأقرب لمذاق قهوة أبو قاسم المرّة.. لا شيء أكثر رومنسية من المسير من حي الشعلان باتجاه أبو رمانة عائماً في طبقة من المرار اللذيذ، سكراناً برائحة الياسمين التي هربت من حاكورة شتوة، مفتوناً بالطعم كما لو أنني أحدق بعنيني تموجان بين الأسود والبني، مشرئبَّ الروح وأنا أهتف في المظاهرات الطيارة: «حرية».
كانت رفيقة الأيام الدامية فكان يمكن أن نمضي عدة أيام دون طعام، لكن كان من المستحيل أن يمرّ دون القهوة. وكان شربها كفيلاً بنسيان هول الفقد والدماء التي كانت تراق كالنهر. ما زلت أذكر بائعها في حي الشعار المحاذي لخط الجبهة. كان الحي مستهدفاً بشكل يومي بعشرات البراميل والصواريخ والقنابل العنقودية. وفي الليل حين يظلم الطريق، وتصبح أي حركة معرضّة لاستهداف الطائرات الحربية. كان هنالك ضوء وحيد ينير ظلام الأحياء المدمرة الخالية من سكانها.
صمد بائع القهوة السريعة حتى آخر رمق في المدينة، وكنا نخرج آخر الليل ننشد قهوته لنرتاح من عبء القلق والانتظار. وعلى خطوط الجبهات لم تكن تنقطع، ففي ليالي الانتظار الطويلة كانت رفيقة المقاتلين في معاركهم الطويلة. يشعلون النار في البيوت المهدمة ويغلون دلالها ويشروبنها بأكثر الطرق رومانسية، فمع مذاقها كانوا يحلمون باليوم الذي يعودون فيه الى بيوتهم وتنتهي الحرب. تضع أوزارها عن كاهلهم فيستطيعون تقديمها للضيوف بأبهى طرقها. في طرقات التهريب الطويلة وفي خيام النازحين يحلمون بها لتزجي ألم الهروب والانتظار. يحرصون على تقديمها كما لو أن أصحابها ما زالوا أسياداً في بيوتهم.
*****
في اليوم التالي لوصولي إلى بيروت، اتجهت إلى مقهى يونس وجلستُ أشم رطوبة البحر، فعادت إلى ذاكرتي كل النصوص التي كُتبت في حصار بيروت. ردّدت في سري ما كتبه محمود درويش في ذاكرة للنسيان: «لا أريد شيئاً سوى رائحة القهوة. كانت القهوة مثل حقيبة أحمل فيها ذكرياتي، أطالع فيها وجوه الأصدقاء والمدن. فمع فقدان البيت تتحول رائحتها إلى سهول وجبال وحواري وأزقة ومشاوير ووشوشات».
كنت أختار البنّ من محمصة يونس. أرابيكا، متوسطة التحميص مطحونة لقهوة الاسبريسو. أعبر من شارع الحمرا حتى الأشرفية. أفتح كيس البنّ وأخرج بعض الحبات المطحونة وأحرقها، لأطهر البيت من رائحة المدينة العفنة، من الجعيتاوي تطير الرائحة فوق سماء المدينة المنهكة، أرسلها مثل طائرة ورقية لترفو المسافة بين غرفة متهالكة في بيروت ومنزلي المدمر في ريف دمشق.
دمر انفجار المرفأ منزلي، وسحقت آلة الموكا وفنجاناً يتيماً اشتريته للقهوة. في اليوم التالي أسرعت الذهاب إلى خليل أبو جودة، مدير البنك المتقاعد الذي أجَّرني منزله في الجعيتاوي. في كل مرة كنت أزوره في منزله في حي مار مخايل كان يسرع في إعداد القهوة، ويقدم لي البيتيفور أو الشوكولا. نجلس في حديث طويل عن سوريا ولبنان وحزب الله وسيطرته على مفاصل الدولة. عندما دخلت إلى منزله بعد انفجار المرفأ، بكى أمامي وقال: لم أعد أمتلك شيئاً لأقدمه كضيافة لك. كان المنزل مدمراً بالكامل، ولمحت فناجين قهوته الفخمة قد طُحنت على أرض الصالون. نجى أبو جودة ووالدته بمعجزة لكنه فقد منزله وقهوة الضيوف التي كان يُسرُّ بتقديمها.
ماذا يعني منزلٌ دون طقم فناجين القهوة المختارة بعناية للضيوف، إنه نقصان ما، إنه المؤقت، والرحيل المستمر. رحل السوريون من حلم إلى حلم، ومن قارة إلى قارة، فاقدين فيها فناجين قهوتهم التي طُحنت بالرماد. سأشتري طقماً من الفناجين الجميلة؛ وعدتُ نفسي عند عبور الحدود، سأشتري فنجانين واحد لي والآخر لك. والبقية لضيوفنا. من بيروت حملت معي علبة بنّ إلى برلين، خبأت فيها قلبي وياسمينة شتوة، ووجه أمي وسهول حوران وبساتين الغوطة وشوارع دمشق ومقاهيها. حملتها هدية كي أمنح قلبي فرصة أخرى كي يشفى من كل هذا الرحيل.
*****
أول بيت أقمتُ فيه في برلين كان لكاتب هولندي، ترك منزله مؤقتاً وسافر نحو بلاد تغمرها الشمس. في مطبخ منزله، وجدت آلة طحن قهوة قديمة تشبه تلك التي كان يستخدمها أبو قاسم. بكيت في المطبخ، أمام حبات البن الطازجة المعبأة بعلب أنيقة، تأملت الفناجين الملونة المصفوفة بعناية على الرفوف، ومن يومها أدركت أن المنفى لا يمكن أن يكون كما يحلم الناجون. هكذا صرت في بحثٍ دائمِ عن بيت، وفي كل بيت مؤقت أقمت فيه، كنت أجد قهوة الآخرين وفناجينهم، قصصهم وذكرياتهم
أدمنتُ الذهاب إلى مقهى أينشتاين كافيه في منطقة Stadtmitte. ثمة شيء ما في بساطة المقهى ذكرني بمقاهي دمشق. ومن وراء نافذة المقهى الواسعة أجلس وأراقب المطر الخفيف منتظراً شيئاً ما. أتأمل قوام القهوة الكثيف وأسترجع معها ذكريات المراهقة في المدينة التي كبرت فيها، أصدقائي الشهداء الذين غابوا قبل أوانهم، المفقودين وراء الزنازين يحلمون برائحة القهوة. أُعمّر في قتامة لونها شبابيك البيوت والحواري والمشاوير التي تسربت من بين أكفنا دون أن ننتبه.
تبقى القهوة الألذ هي تلك التي نُعدّها في مكان يتيح لنا الألفة والهدوء، فهي البيت وألفته. وهي مثل قصيدة تضفي طابعاً رومنسياً على صباحاتنا. إنها دعوة من الطبيعة لنستغرق أكثر في ذواتنا. لنشرد مع الموسيقى في عيون من نحب. نسرح معهم في تلك المساحة من التردد والرغبة والهيام، إنها مثل حلم يقظة، وهي كما شبَّه غاستون باشلار الغيوم، بأنها المعطيات الأكثر حلمية في أوج النهار وهي ترسم تأملات شاردة سهلة وعابرة، وهي تمنحنا تأملاً شارداً دون مسؤولية.
“الجمهورية”