منذ سنوات، ورحلة المثقف والمترجم العراقي سعيد الغانمي، في جغرافية مخطوطات ألف ليلة وليلة لم تتوقف، فما أن ينتهي من تحقيق مخطوطة، حتى يذهب وراء مخطوطة أخرى تضمّ قصصا عن الليالي العربية وعلي بابا والسندباد ومكر النساء. وهذا ما بدا مثلا من خلال تحقيقه مؤخرا لمخطوطة «نزهة الأشواق» التي سنتعرف فيها على قصص عن الحب وهارون الرشيد الذي يسير في شوارع بغداد ليجمع العشاق مرة أخرى بعد أن غدر بهم الزمن وحيل أهله.
وفي السياق ذاته، عاد الغانمي مرة أخرى ليصدر كتابا حول الليالي العربية بعنوان «خيال لا ينقطع» عن دار الرافدين. وقد حاول من خلاله تقديم قراءة لإطار الحكايات ورمزية القصص ودور شهرزاد في استمرار الحياة من خلال السرد. ولأنّ الكتاب يناقش نقاط وتفاصيل عديدة بالتحليل، فإننا سنفضّل التركيز على دراسته لفكرة ظهور ألف ليلة وليلة منذ القرن الثامن عشر.
يعتقد الغانمي أنه ليس هناك (نص أم) أخذ عنه الرواة كامل القصص وأعادوا اختصارها، أو كتابتها مرة أخرى. وإنما يرى أنّ الليالي العربية هي نصوص قد ابتلعت كتبا وحكايات متعددة، ومزجها داخل نصوصه، حتى صارت لا تُعرف إلا من خلاله (خلالها). من ذلك مثلا كتاب «مخاطبات الوزارء السبعة» الذي اشتهر منذ القرن الثاني الهجري. لكن هذا التغيير أو هذا الهضم لا يأخذ النصوص، إلا بعد أن يطبعها بطابعه، ويُحدث عليها التغييرات الأسلوبية واللهجية. وهنا يطرح الغانمي سؤالا مهما، ماذا إن عثرنا على مخطوطة ما، سقطت منها بعض أوراقها وبقيت بلا عنوان، فهل نستطيع أن نعرفها على أنها من قصص ألف ليلة وليلة، أو جزء منها أم لا. والجواب بالطبع نستطيع ذلك، وفق ما يراه الغانمي، وبالتالي نحن أمام عائلة كتب ألف ليلة وليلة، وأمام مجموعة من الرواة الذين لم يعتمدوا على نص واحد وحسب، بل كانوا يعيدون سرد بعض الحكايا ودمجها بحكايا أخرى. وبالتالي نحن أمام كتاب شعبيين مبدعين ومجددين، ولسنا أمام مقلدين بالضرورة. وهكذا يتسابق الرواة في ما بينهم لتقديم نسخة مثلى من الكتاب، ويجتهد كل واحد منهم بإضافة ما يستطيع من سمات بنائية.
تواريخ قديمة لليالي العربية
من حيث البناء الداخلي لليالي، أرادت شهرزاد للسرد أن يقوم بوظيفتين في وقت واحد. الأولى إثارة اهتمام شهريار برواية الحكايات له، حتى لا تسمح له بأن يفكر في قتلها، وهكذا صار السرد يقوم بوظيفة دفاعية، وبالتالي كلما زادت شهرزاد من رواية الحكايات زادت فرصها في الحياة، فالسرد هو الحياة نفسها. والوظيفة الثانية هي تخليص شهريار من عقدته النرجسية، فقد أصيب هذا الأمير بعقدة نرجسية لا شفاء منها، حين رأى زوجته تخونه، وهكذا يأتي السرد وسيلة لشفائه منها.
وكانت الباحثة الأمريكية نابيا آبوت قد عثرت على ورقة من كتاب عنوانه «حديث ألف ليلة» تعود إلى القرن التاسع الميلادي، أي الثالث الهجري، وقد كُتبت في أنطاكيا 266 للهجرة. وعلى الرغم من شحّ المعلومات الواردة في هذه القصاصة، فإنها ذات فائدة كبيرة في رسم مخطط تاريخي لتطور تاريخ الكتاب، لأنها تدل على انتشار الكتاب في العالم الإسلامي منذ القرن التاسع الميلادي. مع ذلك، في ضوء الحالة الراهنة للنسخ المتوفرة من ألف ليلة وليلة، لا يمكن للباحث إلا أن يعترف بتعدّد هذه النسخ واختلافها، بحيث لا يستطيع أحد، مهما أوتي من قدرة أدبية، التوصل إلى نسخة يصحّ وصفها بأنها نسخة معيارية من الكتاب، وبالتالي، يجب أن تعامل كل نسخة باعتبارها نسخة فريدة لا علاقة لها بالنسخ الأخرى، وقد أشار باحثون منذ وقت مبكر إلى وجود مجموعتين من الكتاب، مصرية وشامية.
ولادة النسخة المعيارية والطباعة:
ويعتقد الغانمي أنّ وجود نسخة معيارية بقيت محل سؤال لكل الشاغلين في هذه الليالي، وظل الرواة يعتمدون على نسخ عديدة، لكن تطورا حصل في القرن الثامن عشر، ساهم في خلق ما يسمى بالنسخة المعيارية، وتمثّل في ظهور الطباعة، التي ساهمت في خلق نص واحد مكرر، ما كان يعني بداية تشكّل ما يسمى بالنصوص الأم.
في البداية جاءت طبعة كلكتا، التي صدرت في جزئين في الهند، الجزء الأول 1814، والجزء الثاني 1818، ثم ظهر الكتاب في مدينة بروسلاو في 12 جزءا ما بين عامي 1824-1834. وادّعى الناشر أنها طبعة كاملة. غير أنّ أشهر طبعات الكتاب العربية هي طبعة بولاق في جزئين سنة 1835، وهي التي وفّرت للكتاب فكرة المعيارية لأول مرة. فمع طباعة الكتاب وتثبيته وتكراره أصبحت النسخ المطبوعة أصلا للنسخ التالية لها، ولعل ما ميز طبعة بولاق عن باقي الطبعات أنها اعتمدت نسخة كاملة، يقال إنها تعرضت للتلف بعد الطباعة، كما أنها حظيت بناشر متمكن لغويا هو الشيخ عبد الرحمن الشرقاوي، حرص على تقريب اللغة الشعبية من اللغة المعيارية بقدر الإمكان. وبعد أربع سنوات من طبعة بولاق، صدرت طبعة كلكتا الثانية سنة 1838. وقد ذُكر على غلافها أنها نسخة كاملة بإشراف وليم حي مكناطن، سكرتير إنكلترا في الهند، وأنها مأخوذة من نسخة كتبت في الديار المصرية. وبعد خمسين سنة، صدرت طبعة جديدة في بيروت عن المطبعة الكاثوليكية سنة 1889 بإشراف الاب أنطوان صالحاني اليسوعي، وقد اختلفت هذه الطبعة عن الطبعات السابقة في تسلسل الحكايات والأسلوب واللغة، وكثير من القضايا الفنية، وضمت حكايات لا تحتويها الطبعات السابقة.
ولادة شهرزاد في الغرب
ولد أنطوان غالان في بيكاردي (فرنسا) عام 1646 لعائلة من أصول متواضعة، وعُيِّن أستاذا للغة العربية في الكلية الملكية. وقد أتاح له إلمامه باللغات الشرقية أنّ يعين عام 1670 معاونا للسفير الجديد لدى الباب العالي في إسطنبول. وبدءا من عام 1704 أصدر أربعة أجزاء من ترجمته لليالي العربية، وبعدها بسنة أصدر جزئين آخرين، ثم أصدر سبعة أجزاء أخرى سنة 1706. غير أنّ غالان لم يقبل الحكايات العربية كما هي، بل أخضعها لعدد من التعديلات بحيث تقبلها النخب الثقافية في ذلك العصر. وكانت الأخلاق الباروكية هي السائدة، وهي تطلب من المرأة الحشمة، لكنها تتسامح مع كل مظاهر انتهاك الحشمة في السر. وحاول غالان في أسلوبه الاستغناء عن الألفاظ البذيئة والإشارات الجنسية الصريحة، كما تتضح مثلا في تسمية الأعضاء الجنسية والأدب المكشوف في مشهد الاستحمام في حكاية «الحمال والبنات الثلاث» كما حاول تحاشي الإشارات الصريحة للمثليين.
وفي عام 1709، تعرف غالان على الماروني الحلبي حنا دياب، الذي روى له بعض الحكايات العربية الجميلة أشهرها «علي بابا والاربعون حرامي». ولم يكن غالان مجرد مترجم محايد، بل هو مترجم أبدع وخلق نصا جديدا من ألف ليلة وليلة، من خلال إضفاء لمسته عليه، ومحاولة جعله جزءا من ذاكرته الثقافية الغربية.
واللافت أنّ طبعة غالان سيكون لها تأثير واسع في حياة الأوروبيين، وهذا ما نراه في أعمال فولتير، وأيضا في أعمال غوته (1749-1832) وتكفي الإشارة إلى بعض المشاهد التي استمدها من الليالي في مسرحية فاوست. وبعد نسخة غالان، سيعمل إدوارد لين على خلق النسخة الإنكليزية. وكان قد عاش فترة طويلة في القاهرة، لكنه وقع أيضا في فكرة الحفاظ على حشمة النص.
اللافت أنه ستصدر لاحقا ترجمة إنكليزية في أمريكا سنة 1790 أو 1794، وقد استهوّت القراء وحصلت على أفضل المبيعات، واعتبرها الجمهور الأمريكي وثيقة لتصوير الواقع الشرقي والليالي العربية. واللافت أيضا ظهور نسخة يابانية من الليالي بدءا من 1875، ولما كانت اليابان تتطلع إلى تقليد الغرب، كان الشرق الذي تتحدث عنه الليالي في منظور اليابانيين هو الشرق الأوسط. وعاد عدد من الباحثين اليابانيين وترجموا النسخة من العربية مباشرة في فترة التسعينيات. وهكذا نرى أنّ الليالي العربية قد ظهرت في أكثر من نص في الغرب وباقي بلدان العالم، ما يعني أنه رغم محاولات البحث عن مرجع معياري لها، فإنّ البعد الخيالي الذي لا تتوقف الليالي عن خلقه في ذهن القارئ، أوقع الباحثين الغربيين في حبالها وعوالمها. لتدفعهم عوضا عن الالتزام بنسخة ما، المضي نحو خلق نسخ أخرى. وهكذا نرى أنّ هذه الليالي لا تتوقف عن إدهاشنا بقدرتها على التجدد والولادة كل بضع سنوات.
كاتب سوري
“القدس العربي”