ما زالت الصحافة تردّد خبر لقاء وزراء ومسؤولي استخبارات من تركيا وسورية برعاية روسية أنه مقدّمة للقاءات ذات مستوى أعلى، وهي في الوقت نفسه مؤشّر على تغير نمط التعامل التركي مع النظام في سورية، ومع مكوّنات المعارضة التي تتخذ من تركيا مقرّا لها، بما يعني الاقتراب من إرساء علاقاتٍ شبه طبيعية بين تركيا والنظام، وقد زاد من تأثير هذه التكهنات ما قيل عن قرب لقاء بين وزيري خارجية البلدين لمزيد من التباحث، ووضع بعض قواعد التعامل الجديدة، ولكن الموعد المقترح، وهو منتصف الشهر الأول من العام الحالي، قد انقضى، ولم يحدُث اللقاء، وخرجت تصريحات ذات سقف مرتفع لرأس النظام السوري ووزير خارجيته، في الموعد المقترح للقاء، مطالبةً بخروج كل أشكال القوات التركية من سورية، وأن سورية لن تفاوض تركيا ما دامت تحتل أرضا سورية، وهذا شرطٌ مسبقُ لأي لقاء على مستوى رفيع. ومعروف أن هذا الشرط ليس من عقيدة النظام، فقد سبق وتفاوض وزير الخارجية السوري مع الإسرائيلي عدة مرّات وجها لوجه، علما أن إسرائيل تحتل أرضا سورية.
لا يؤكد اجتماع وزيري دفاع البلدين في بلد ثالث أن تركيا في حالة إعادة النظر في المسألة السورية، فلم يَبدُ على السياسة التركية أي تحوّل رغم ارتفاع مستوى اللقاءات فعلا، ومن المعلوم أن ما بحثه الوزيران كان شيء مشابه له يدري في السابق بشكلٍ غير مباشر مع تبادل معلوماتٍ استخبارية، ودائما عبر وسيط روسي، وربما إيراني. وتغير السياسة التركية الحقيقي هو نحو روسيا وليس نحو سورية. وقد حدث انزياحٌ سابق، قبل أكثر من ست سنوات، أما تغير التصريحات التركية التي كانت متّبعة سابقا فليس معناه أن تغيّرا جوهريا قد طرأ على نظرة الأتراك نحو دمشق، مع ملاحظة أن النبرة السياسية قد اختلفت قليلا بما يعكس واقعية تركية تأخذ بالاعتبار مصالحها مع روسيا وقلقها تجاه الكرد.
تحتضن تركيا أكثر من ثلاثة ملايين ونصف لاجئ، هربوا جميعا من الجحيم السوري، بعضُهم نتيجة الخوف من القصف والاستهداف الأمني والعسكري، وأقلّ من هؤلاء قد هرب نتيجة الظرف الاقتصادي الطاحن، وعودتهم جميعا تحت أي عنوانٍ جديدٍ للعلاقات التركية السورية، غير واقعية. ويدرك الأتراك استحالة مثل هذه الفكرة، فالداخل السوري الذي يكابد بشدّة تحت وطأة اقتصاد مزرٍ، غير قادر على استيعاب عودة ملايين، في وقت قصير، وهو في الواقع غير قادرٍ على تأمين الاحتياجات الأساسية لمن هم في الداخل أصلا، فضلا عن الرغبة الشخصية لكل واحدٍ من هؤلاء الملايين بالبقاء في تركيا أو الرحيل شمالا نحو أوروبا، وليس بالعودة إلى سورية في ظروفها الحالية.
هناك خمسة ملايين آخرين يعيشون في منطقة إدلب وريفها وبعض أرياف حلب، ويمكن لأي تغيرٍ في العلاقات السورية التركية أن يضعهم تحت تهديدٍ مباشر. ومن الطبيعي حينها أن يفكّروا بالمغادرة إلى تركيا فورا، ما سيشكّل ضغطا شديدا لا يمكن احتماله. وبالتالي، رفع الغطاء عن الفصائل المسلحة في الشمال التي تعيش في الكنف التركي، وتؤمّن حماية واستقرارا اقتصاديا معينا لهؤلاء الملايين الخمسة، غير وارد، وإلا اختلّت المعادلة، ووقعت الحدود التركية تحت ضغط شديد، ما سيشعل المخاوف الأوروبية مجدّدا بتكرار ما حصل بين عامي 2014 و2018، حين تقاطر السوريون نحو دول الشمال الأوروبي.
قد يجرّ التقارب التركي السوري أخطارا كبرى، بعضها ديمغرافي وبعضها اقتصادي، يشمل حوالي تسعة ملايين سوري يعيشون حاليا في تركيا وشمال سورية. وتركيا ليست في وارد خوض مثل هذه التحدّيات، أما مخاوفها من العامل الكردي فيمكن أن تُحلَّ عبر تفاهماتٍ مع روسيا ومع الولايات المتحدة، وقد يدخل، في جانب منها، النظام السوري، وهو ما تقوم به تركيا حاليا.
“العربي الجديد”