كانت مصر على موعد حقيقي للتغيير في 25 كانون الثاني/يناير عام 2011. القوى المدنية الساعية للتغيير كانت متفقة على طريقة إصلاح النظام سلميا، لكنها لم تكن متفقة على طبيعة وشكل النظام البديل، بعضها كان يحلم بالبديل الديمقراطي والبعض الآخر بالبديل الديني. الثوار المدنيون خارج تيار الإخوان المسلمين كانوا يعرفون تماما «ماذا لا يريدون» لكنهم لم يكونوا أبدا متفقين على «ماذا يريدون» ولا كيفية تحقيقه، إلا في إطار خطوط عريضة تتعلق بتعديل الدستور، وإلغاء حال الطوارئ، وحل المجلس النيابي وإجراء انتخابات نزيهة. هذه المطالب الأربعة التي تبلورت خلال حوارات القوى الديمقراطية السابقة لانتخابات عام 2010 لم يكن بينها إسقاط الرئيس الأسبق حسني مبارك. ويجب أن أؤكد هنا أن شعار «الشعب يريد إسقاط الرئيس» لم يكن مطروحا يوم الثلاثاء 25 كانون الثاني/يناير. لكنه طرح فعلا في الأيام التالية بعد أن استقرت قيادة ميدان التحرير في أيدي مجموعة «تحالف شباب الثورة» التي كانت تلتقي في خيمة داخل الميدان.
من وراء الكواليس لعبت دورا رئيسيا قوتان أثقل وزنا من الناحية التنظيمية واللوجستية والسياسية، هما جماعة الإخوان المسلمين والمجلس الأعلى للقوات المسلحة. وكان يوجد تنسيق عن قرب بين الجماعة والمجلس وبين تحالف شباب الثورة كأفراد. وكان واضحا في المشهد العام أن الجيش قد أبعد الشرطة عن الميدان، وتولت دباباته مهام الأمن والحماية من كل الاتجاهات. وكانت الأوامر واضحة لكل أفراد وقيادات أطقم الدبابات المنتشرة، بعدم استفزاز المعتصمين في الميدان، والمحافظة على سلمية الموقف، تجنبا لخطر التدخل الأجنبي، بذريعة المحافظة على الأمن والاستقرار. في ذلك الوقت كان الهاجس الرئيسي لجماعة الإخوان هو اختطاف الثورة وأسلمتها، وإبعاد عناصر التيار المدني الديمقراطي. وفي المقابل كان هدف المجلس العسكري الأعلى هو المحافظة على سلمية الثورة، واحتواء الإخوان، والتمهيد لنقل السلطة سلميا من الرئيس مبارك إلى الجيش، باعتباره الوريث الطبيعي للسلطة.
وهكذا سارت الأمور حتى إعلان تنحي مبارك عن الحكم لقيادة الجيش وليس لقيادة الميدان. وتجنبا لحدوث أي فراغ سياسي أو دستوري، أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة نفسه وصيا على الحكم، وأصدر بذلك إعلانا دستوريا مؤقتا، ورسم بسرعة خريطة طريق للانتقال السياسي السلمي، تم وضعها بمشاركة قيادات جماعة الإخوان. وظهر واضحا من خلال التطورات اللاحقة أن هناك صداما قادما لا محالة بين جماعة الإخوان، التي اعتقدت أنها المؤهلة شرعا لحكم البلاد، ربما لمدة 500 عام مقبلة، وبين الضباط الذين يؤمنون أنهم ينحدرون من المؤسسة التي حققت لمصر استقلالها، وأقامت فيها بنيان الدولة المعاصرة. ومع أن الجماعة حصلت على أغلبية برلمانية بشرعية صندوق الانتخابات، وحكمت بمقتضى دستور جديد، فإن ما اتفق خبراء التحليل السياسي على تسميته «نفوذ الدولة العميقة» استمر يلعب في الظل دورا أساسيا في إدارة أجهزة ومؤسسات الدولة، وعلى رأسها الجيش والشرطة والقضاء. وكان الصراع بين مؤسسات الحكم الرسمية، وأهمها البرلمان والحكومة، ونفوذ الدولة العميقة هو محرك الحياة السياسية والاقتصادية حتى عادت السيطرة على البلاد للجيش والمؤسسة الأمنية. وفي التوازي مع الاضطرابات السياسية التي صاحبت مسار الثورة، تعرض الاقتصاد لخسائر فادحة، وذلك نظرا لأن النمو الاقتصادي وزيادة الإنتاج والتشغيل كان أحوج ما يكون إلى الاستقرار المفقود. وهنا يجب أن ندرك أن غياب الرؤية الاقتصادية، مع عوامل عدم الاستقرار السياسي والأمني لعبت دورا كبيرا في هروب الاستثمارات الأجنبية، وتراجع الإنتاج بسبب حالة الفوضى وتدهور الأمن، واضطراب سلاسل الإنتاج المحلي، وعدم الثقة في الغد، والخوف من المستقبل بشكل عام.
تراجع الاحتياطي النقدي
كان أخطر التداعيات الاقتصادية لعدم الاستقرار السياسي هو تراجع احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي المصري، إضافة إلى مؤشرات أخرى صاحبت ذلك منها زيادة العجز المالي والدين العام الحكومي، وارتفاع أسعار الفائدة على أدوات تمويل الدين العام، وهبوط قيمة الجنيه على الرغم من تدخل البنك المركزي بضخ مئات الملايين من الدولارات في السوق. قيمة احتياطي النقد الأجنبي قبل قيام ثورة يناير التي كانت حوالي 36 مليار دولار، هبطت بسبب هروب رؤوس الأموال الأجنبية إلى 20 مليار دولار فقط في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2011 منها 5 مليارات دولار مستحقات على البنك لمستثمرين أجانب لا يمكن المساس بها. أي أن الاحتياطي تراجع بقيمة 16 مليار جنيه في 11 شهرا فقط، منها أكثر من 10 مليارات دولار كانت مستثمرة في أذون وسندات الخزانة المصرية. ومع تفاقم أزمة التمويل بالعملات الأجنبية قامت القوات المسلحة بإقراض البنك المركزي مليار دولار من عائد المشاريع الإنتاجية المملوكة لها. في ذلك الوقت توقع اللواء محمود نصر مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية أن تهبط قيمة الاحتياطي في كانون الثاني/يناير 2012 إلى 15 مليار دولار فقط. وهو ما يعني أن الحكومة قد تعجز عن تمويل الواردات خلال 3 أشهر نظرا لأن قيمة واردات مصر في ذلك الوقت كانت تعادل 4.3 مليار دولار شهريا.
ويمكن القول بأن أربعة أسباب مباشرة أدت إلى تآكل قيمة الاحتياطي النقدي. السبب الأول هو استخدام جزء من الاحتياطي لتمويل استيراد سلع أساسية واستراتيجية، منها القمح ومشتقات الوقود، لصالح كل من هيئة السلع التموينية والهيئة العامة للبترول. والثاني هو تدخل البنك المركزي في سوق العملات لمساعدة الجنيه ومنعه من الانهيار، خصوصا بعد الانفلات الأمني الذي بدأ يوم 29 كانون الثاني/يناير 2011 وما رافقه من انسحاب الشرطة. السبب الثالث هو تغطية سداد مستحقات المستثمرين الأجانب الذين سارعوا للخروج من سوق التمويل المصرية، خشية اتساع نطاق عدم الاستقرار السياسي في البلاد. أما السبب الرابع فكان سداد سندات دولارية مستحقة بقيمة مليار دولار في تموز/يوليو عام 2011 إضافة إلى مستحقات دولارية أخرى لنادي باريس.
دور صندوق النقد الدولي
بينما كانت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ على الصعيد الاقتصادي، ورغم عدم ميل كل من المجلس العسكري وجماعة الإخوان على الاقتراض من صندوق النقد الدولي، فإن الحكومة راحت تستطلع أفق الحصول على مساعدات من الصندوق، الذي أرسل وفدين إلى مصر في اذار/مارس 2011 للاطلاع على الوضع الاقتصادي عن قرب، واقتراح عدة محاور للتعاون مع الحكومة في إخراج البلاد من حالة تدهور المالي والاقتصادي التي كانت تعاني منها. في ذلك الوقت كانت الحكومة تأمل في الاتفاق مع الصندوق على اقتراض حوالي 3.2 مليار دولار، مع الاستفادة من الاتفاق في تجميع تمويل إضافي من أسواق المال العالمية والدول والمؤسسات المانحة للمساعدات بقيمة تصل إلى 8 مليارات دولار. وفي هذا السياق تم الاتفاق على عقد اجتماع للدول المانحة بالاتفاق مع صندوق النقد في «دوفيل» بفرنسا في أيار/مايو 2011 لبحث القضايا المتعلقة بالمساعدات الاقتصادية المطلوبة لدول «الربيع العربي» وليس مصر فقط. واستمرت المناقشات حتى تمت بلورة صيغة للمساعدات لمصر وتونس وليبيا والأردن والمغرب، صدر بها بيان مشترك في 10 ايلول/سبتمبر 2011 بمساعدات تصل إلى 40 مليار دولار، وقعت عليه الدول والمؤسسات الدولية الأطراف في تمويل «شراكة دوفيل» وعلى رأسها مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى وصندوق النقد والبنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي وصندوق النقد العربي والصندوق العربي للإنماء وصندوق أوبك للتنمية وبنك الاستثمار الأوروبي وبنك التنمية والإعمار الأوروبي.
وخلال الفترة من أيار/مايو إلى أيلول/سبتمبر قدرت مصر قيمة الفجوة التمويلية التي تحتاج إلى تغطيتها بما يتراوح بين 10 إلى 12 مليار دولار حتى نهاية السنة المالية في حزيران/يونيو 2012. ووضع الصندوق من ناحيته عددا من الشروط للتعاون في تمويل الفجوة مع المؤسسات الدولية. وكان من أهم الشروط أن تقدم الحكومة برنامجا واضحا للإنقاذ وآليات تحقيقه، وتأكيد وجود إجماع وطني على هذا البرنامج، وتحديد نقاط الاتفاق والاختلاف بين هذا البرنامج وبين ما تم الاتفاق عليه بمقتضى «شراكة دوفيل» وتحديد قيمة التدخل المالي الذي تطلبه الحكومة. وعلى مدى الفترة من اذار/مارس إلى تشرين الثاني/نوفمبر عام 2011 ناقش خبراء صندوق النقد الدولي مع الحكومة الكثير من الأفكار التي أصبحت منذ ذلك الوقت ركائز شروط المساعدة، منها زيادة موارد الدولة من خلال بيع أصول وشركات عامة بما في ذلك بنوك رئيسية، وتخفيض سعر الجنيه المصري بنسبة تتراوح بين 25 إلى 50 في المئة، ووضع برنامج لامتصاص الآثار الاجتماعية لهذه السياسة. وبسبب الخلافات بين مصر والصندوق، خصوصا فيما يتعلق ببرنامج بيع الأصول، وطلب تخفيض قيمة الجنيه تعثرت المفاوضات. وفي الوقت نفسه فإن الحكومة برئاسة الدكتور كمال الجنزوري، كانت تواجه خلافات حادة مع حزب الحرية والعدالة وحزب النور في البرلمان، بسبب المفاوضات مع الصندوق. وأعلن حزب الحرية والعدالة (جماعة الإخوان) في اذار/مارس 2012 رفض استمرار الحكومة، كما أعلن حزب النور رفض توقيع أي اتفاق مع الصندوق قبل استنفاد كافة الوسائل الأخرى للخروج من الأزمة الاقتصادية. ومع استمرار الخلافات السياسية زادت تعقيدات المفاوضات مع الصندوق، وتم ترحيل الأزمة حتى تجددت المفاوضات وتم التوصل إلى اتفاق قرض الـ 12 مليار دولار في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2016.
“القدس العربي”