خطاب الذات وهوية المكان
ينفرد الإنسان عن باقي الكائنات بالإحساس بالانتماء، إذ لا يكفي أن يشير المرء إلى الإحداثيات الجغرافية التي تحدد المكان الذي يتحيز به، فدون ذلك إحساس ووعي وانصهار؛ فالأفراد يحددون أنفسهم من خلال الإحساس بالمكان، فعندما نسأل عمن نحن، كثير منا يبدأ بالجواب، أنا مغربي أو أنا «تطاوني» أو «تونسي» أو ما شاكل ذلك. وهذه الأماكن هي أكثر من مجرد بقع على الأرض أو على الخريطة، ذلك أنها تضمر جملة من الصفات الثقافية المميزة، وتتجاوز حسم الجواب عن أين نقيم إلى الجواب عمن نحن، وإذ نحن مستمرون في حيواتنا اليومية، فإننا نتعلم أنماطا من السلوك ونتوارثها لا شعوريا عن تنظيم الفضاء واصطفاء من يقيم فيه، ومن ينبغي أن لا يكون ضمنه، ومن يملك حق التسمية؛ لأن من يملكها يملك بالطبع السلطة وتوزيع الأدوار بين الأفراد والمجتمع، وبين الجنسين معا على وجه التحديد، والنتيجة هي أن الأماكن توفر مجالا للتجارب المشتركة بين الناس، والاستمرارية على مرّ الزمن، وتتجول الأفضية إلى أماكن عندما تصبح «مشبعة بالزمن»، لها ماض ومستقبل يقيدان الناس معا حولهما. وإذا تم تقويض العلاقات بالأماكن، سيتم من ثم تقويض الجماعات وهويات الأفراد. ضمن هذه الإشكالات العامة يمكن أن نقارب مقال الباحثة جليلة الطريطر: «صورة القاهرة في سيرة نوال السعداوي الذاتية».
تنطلق الباحثة في هذه الدراسة من السؤال عن علاقة الذاتي بالموضوعي في السيرة الذاتية: «أوراق من حياتي» لنوال السعداوي، من خلال تفكيك دلالات المكان – على اختلاف طبيعته – وما يضمره من مواضعات اجتماعية، تكرس منظومة ذكورية تحتكر المكان لصالحها، ولعل هذا الوعي بجدلية الذاتي والموضوعي عند الشخصية السيرذاتية أفضى – حسب الدارسة – إلى إفراز خطاب ما وراء تاريخي Méta-histirique هو وليد ذلك الوعي. وعليه، فإن قراءة صورة القاهرة يفضي إلى الكشف عن صراع هويتين في الخطاب السيرذاتي لنوال السعداوي: خطاب الذات التي تتوق إلى إثبات حقيقتها وكينونتها، وهوية المكان الذي يصوغ للذات الأنثوية – من خلال المواضعات الاجتماعية والهيمنة الذكورية – صورة نمطية قوامها الخضوع والاغتراب عن الذات من قبل المجتمع. وقد عنَّ للباحثة أن هذا التصور ينتظمه مستويان متكاملان ومتداخلان في الخطاب: المستوى الجدولي الذي ينصرف إلى الدلالة على تمثلات الفضاء؛ أي منظومة الفضاءات الحضرية المتعددة التي احتكت بها الشخصية السيرذاتية، والمستوى الإدماجي أو التأليفي، الذي يحيل على القراءة النقدية المشتبكة بالفاعلية الوصفية، ضمن علاقات أشمل، وهي استشراف تمثل الفضاء في الخطاب السيرذاتي ورصد السمة المهيمنة عليه، في ارتباط بالذات الأنثوية التي تتوق لإنتاج هوية مكانية حقيقية تكفل لها حفظ إنسانيتها وخصوصيتها.
المستوى الجدولي
تناولت الدارسة من خلاله، جدول الفضاءات العامة والخاصة للقاهرة التي وظفتها الراوية وسعت الدارسة لتفكيك مدلولاتها واكتناه خصوصياتها، باستحضار العلاقة الجدلية بين الأنا المنفعلة، والذات الأنثوية المقهورة، التي تتلمس الطريق لإثبات هويتها، ودرء هامشيها وسط قوالب مكانية ذكورية بامتياز.
وفي هذا السياق ينبغي الإقرار بوجود قوالب مكانية مختلفة باختلاف نمط الإنتاج والطبقات الاجتماعية التي تتحيز فيه. وتتحدد هذه القوالب مسبقا بالأشكال التاريخية ـ الاجتماعية لتملّك واستخدام المجال، بيد أن الأمر ههنا لا يقف عند هذا الحد، بل ينبغي الكشف عما تمتلكه هذه الأمكنة من جوهر داخلي سعت الدارسة إلى رصده من خلال الخطاب السيرذاتي، الذي أبان عن وجود علاقة بين الأمكنة ومنظومة القيم التي تضمرها، والوعي الأنثوي الذي يستبطنها. لأجل ذلك، سعت الدارسة لرصد الشبكة المكانية المعقدة في الخطاب السيرذاتي، جاعلة إياها في شكل تقاطبات مكانية تجمعها وشائج قيمية ترابطية (الفضاءات الحميمة/الفضاءات العامة)، وتنتظم طرفي الزوج المكاني جداول مكانية متحركة ومتدرجة في الحميمية والعمومية المنفتحة على العالم الخارجي، ثم هناك جداول مكانية طبيعية ثابتة، تحيل على الهوية الجغرافية للقاهرة التي ستغدو في النهاية الملاذ والمخلص للشخصية السيرذاتية، من الاغتراب والمتاهة عبر الأطر المكانية المتعددة، التي تشترك جميعها في تشيئ الذات الأنثوية وإقصائها والتنقيص منها.
ويمكن القول إن جليلة الطريطر استطاعت أن تسبر بعمق العلاقة بين الذات الأنثوية والمكان، منتزعة إياه من مظهره المحايد والبريء، إلى عده مكونا أو نسقا يضمر قيم اجتماعية وثقافية ذكورية، أفرزها تاريخ طويل من القهر والتسلط، لم تستطع مساحيق الحداثة المزيفة أن تستر عواره وتقوّم اختلاله.
وسوف تمضي الدارسة في تفكيك هذه الأطر المكانية، بدءا بالبيت العائلي، حيث تُوزع الأدوار الاجتماعية بين الجنسين وفق منطق سلطوي ذكوري، ووفق الموقع الطبقي للراوية ولأقاربها، الذي يضفي على تلك الأمكنة قيما متعددة نابعة من ثقافة وتقاليد الطبقة الاجتماعية، التي تستوطن تلك الأمكنة، والتي تشترك على اختلافها-حسب الدارسة – في جعل السلطة على المكان بيد الرجل، فيما تظل المرأة تابعا وظلا يحتمي بدوحة الرجل؛ أي أن هناك قيما معينة اقترنت بتلك القوالب المكانية ولزمتها. وعليه فإن تاريخ أصول إنتاج المكان يسبق تاريخ تملكه (المطبخ مثلا: مكان مقصور على المرأة مسبقا وليس للرجل أن يدخله). ومثلما أن الشبكة المكانية في الخطاب السيرداتي ثابتة، فإن الزمن دوري ومستعاد على غرار أسطورة العود الأبدي. وهنا تكشف الدراسة أن رحلة نوال السعداوي في المكان اتخذت صورة المشروع التحرري الذي يبتغي إنهاء أو منازعة احتكار الرجال قوالب مكانية معينة، مقابل تخصيص أخرى هامشية للمرأة؛ ذلك أن المكان في التحليل المقدم ليس حيزا محايدا ولا بريئا، بقدر ما يغدو نسقا يشف عن قيم ومواضعات ومرجعيات تنتظمها سلطة أحادية، وهو ما دفع الروائية – من خلال شخصية البطل – إلى التمرد على حشر المرأة في المطبخ، والتوق لارتياد أماكن عامة تكفل لها وجودها الإنساني، وتضمن لها الخلاص مما رُسم لها من جغرافيا مكانية محددة. ولدى استكشاف الدارسة للتجربة المكانية لنوال السعداوي، راغت إلى تفكيك خصوصيات المؤسسات التربوية النسوية، التي يفترض أن تكون متنفسا للذات الأنثوية، وتخليصها من سجن البيت والمطبخ، بيد أن هذه المؤسسات ما انفكت في عمومها تكرس قيما بيتية بكل سلطويتها، بل إنها أعادت إنتاج المنظومة المكانية الذكورية نفسها، تحت غطاء التحديث المزعوم؛ ذلك أن تعدد الفضاءات والإغفال عن عدم ربطها بالقيم الاجتماعية، يوقع القارئ في وهم وظيفتها ومرجعيتها الحيادية، انطلاقا من أن هذه الأطر المكانية المرصودة في الخطاب السيرذاتي تكرس النظرة الأحادية والشمولية، أو ما اصطلحت عليه الدارسة بهيكلية التركيبة المكانية الكلية، لذلك فلا أمل يرجى – حسب منطق السرد – من المؤسسات التربوية النسوية وقدرتها الحقيقية على تغيير الثوابت المقررة لحجب الأصوات النسوية والتنقيص من الذات الأنثوية، وقدراتها العقلية، كما هو ديدن شخصية الناظرة، التي بدت امتدادا للسلطة الذكورية وتماهت مع الرجل في مظهره وسلوكه. ولربما قاد البحث عن الوجاهة وضمان الشهرة، النساء إلى هذا الصنيع، بيد أنه يُفْقِدْهن أنوثتهن، لذلك غدت هذه الظاهرة موضوع سخرية وتندر من قبل الكاتبة، واصفة إياهن بالنساء الممسوخات، مقابل النساء المتشيئات (ربات البيوت). وههنا تتعطل مسيرة صياغة حداثة نسوية حقيقية؛ إذ أضحت عاجزة عن إنتاج هوية زمانية ومكانية تقطع مع النسق الذكوري وقوالبه اللغوية والمكانية، طالما أن المرأة المتعلمة التي هي النموذج ينتهي بها المطاف إلى استبطان القيم الاجتماعية النمطية حول المرأة بطريقة لاشعورية، وهي التي سخّرت كل قواها لتعديل النسق الذكوري وتوسيع مرجعياته.
لقد سعت الدراسة إلى الوقوف على مرامي الخطاب السيرذاتي عند نوال السعداوي الذي سخر استراتيجيات السرد والوصف وأفعال الشخصيات للظفر بمعادلة أنثوية ناجحة تلتقي فيها مجتمعة، الأنثى بالإنسانة وبالمواطنة، دون الإخلال بأحد منهم، وهو ما لم يتحقق؛ إذ ظل اغتراب المرأة جسديا ملازما لها في كل تحيزاتها المكانية، الذي اتسم بالإغارة على الجسد الأنثوي وإيذائه، مما يشف عن تردي المنظومة الأخلاقية الحضرية التي تقوم على ازدواجية قيمية مؤداها: الحفاظ على كرامة المرأة وصيانة شرفها، مقابل التحرش بها واللعب بجسدها من لدن أياد قذرة متى غشيت الأماكن العامة. وفي ارتباط بذلك ترى الدارسة أن ظاهرة الترجل عند نوال السعداوي تؤول إلى استراتيجية دفاعية ضد قيم ذكورية مهيمنة، أكثر منها تعبيرا عن شذوذ أو انحراف في الشخصية.
ثم تمضي بعيدا في تأويل العلاقة بين الشخصية الأنثوية والمدينة (القاهرة)، التي ترمز إلى الهوية الوطنية الجريحة بفعل الاستعمار؛ حيث تتجاوز علاقة متحيز بحيز، أو قالب هندسي إلى التعبير عن تماثل وتماه بينهما على مستوى التوق إلى الانعتاق من الاستلاب ومسخ التصدع الذي لحقهما؛ وفي هذا الاتجاه، كان حضور الجدول المكاني في نص السعداوي تعبيرا عن تحولات خاصيات المدينة القاهرية الطبيعية إلى معالم جسدية جمالية رمزية.
المستوى الاندماجي
ركزت من خلاله الدارسة على ظاهرة التسلط التي عنِيَ الخطاب السيرذاتي لنوال السعداوي بتعقبه في بنية المكان والزمان والتاريخ المصري منذ الفراعنة إلى القرن العشرين، وأثر ذلك في وعيها بذاتها وبالعالم؛ ذلك أن القهر غدا بنية مركزية تنسرب عموديا في تضاعيف المجتمع المصري، بدءا بالاستعمارين التركي والإنكليزي وانتهاء بعلاقة الجنسين. وليس بدعا – بمولاة ذلك – أن الدلالة المعجمية للقاهرة مشتقة من القهر – مثلما أبانت الراوية – وهو ما يمثل خروجا عن مقررات الدرس اللساني، الذي يقر باعتباطية الدليل، إلا أنه قهر يشمل الجنسين معا وليس الجنس الأنثوي فقط، بل إنه يمتد ليشمل المكان أيضا؛ فالقاهرة كما الإنسان المصري بدت في «أوراق من حياتي» متصدعة وممسوخة في تركيبتها الاجتماعية وعمارتها؛ لأنها عجزت عن إنتاج هوية عميقة مستنبتة في التربية المصرية، وتلتئم عندها كل أطياف المجتمع، تماما كما تنصهر فيها مستحدثات العمارة الحديثة مع مقومات المدينة العتيقة.
ويمكن القول إن جليلة الطريطر استطاعت أن تسبر بعمق العلاقة بين الذات الأنثوية والمكان، منتزعة إياه من مظهره المحايد والبريء، إلى عده مكونا أو نسقا يضمر قيم اجتماعية وثقافية ذكورية، أفرزها تاريخ طويل من القهر والتسلط، لم تستطع مساحيق الحداثة المزيفة أن تستر عواره وتقوّم اختلاله. والحال أن المكان غير منفصل عن نمط الإنتاج وعلاقاته، لذلك رأينا أن الرأسمالية استطاعت أن تنتج قوالب مكانية منسجمة مع توجهاتها في الإنتاج وتقسم العمل، ومن ثم أفرزت أمكنة متسلسلة ومجزأة، على شكل خلوي وغير قابل للإعادة، أمكنة تعكس التقسيم التايلوري للعمل.
كاتب مغربي
“القدس العربي”